الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

متشابهاً وغير متشابه

متشابهاً وغير متشابه

متشابهاً وغير متشابه

من النظائر القرآنية الآيتان الكريمتان في سورة الأنعام:

الآية الأولى: قوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} (الأنعام:99).

الآية الثانية: قوله سبحانه: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأنعام:141).

فقد ورد وصف الثمار في الآية الأولى بقوله سبحانه: {مشتبها وغير متشابه} في حين ورد وصفها في الآية الثانية بقوله: {متشابها}. وجاءت صيغة الأمر في الآية الأولى: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} في حين جاءت صيغة الأمر في الآية الثانية: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} والسؤال الذي قد يرد هنا: ما وجه الاختلاف في الآيتين مع اتحاد مرماهما؟

أجاب ابن الزبير الغرناطي عن السؤال الأول بما حاصله: أن {مشتبها} و{متشابها} لا فرق بينهما إلا ما لا يُعَدُّ فارقاً؛ إذ الافتعال والتفاعل متقاربان، أصولهما: الشين، والباء، والهاء من قولهم: أشبه هذا هذا، إذا قاربه وماثله، فورد في أولى الآيتين على أخف البناء، وورد في الثانية على أثقلهما؛ رعياً للترتيب بذكر الأخف لفظاً ثم الأثقل، كما في قوله جلَّ شأنه: {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (البقرة:38) وقوله سبحانه: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} (طه:123).

وأجاب ابن الزبير الغرناطي عن السؤال الثاني بما حاصله: أن قوله تعالى في الآية الأولى: {انظروا إلى ثمره أذا أثمر وينعه} مبني على ما قبله مما مبناه على الاعتبار والافتكار، قال تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون} (الأنعام:95)، وقال عز وجل: {فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم} (الأنعام:96) وقال سبحانه: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} (الأنعام:97) وقال عز شأنه: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} (الأنعام:98) ثم قال تعالى بعدُ: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} فلما كان مبنى هذه الآيات على الاعتبار والتنبيه بما نصب تعالى من الدلائل على وحدانيته، لم يكن ليناسب ذلك ويلائمه إلا الأمر بالنظر والاعتبار، لا الأمر بالأكل.

أما الآية الثانية فمبنية على غير هذا، حيث تقدمها قوله تعالى: {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون} (الأنعام:138) فقوله: {حِجْرٌ} أي: مَنْعٌ {لا يطعمها إلا من نشاء} وجرى ما بعدُ على التناسب إلى قوله: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر}.

ثم قال بعد ذكر الأنعام: {ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} وجرى ما بعدُ على هذا في تفصيل ما أحلَّ سبحانه لعباده، وردِّ ما ظنت يهود تحريمه على هذه الأمة، ثم أتبع سبحانه لعباده ذِكْرَ ما حرم أكله، فقال لنبيه عليه السلام: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} (الأنعام:145).

ثم أتبع تعالى بما حرم على بنى إسرائيل أكله، فقال: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} (الأنعام:146) فلم يتخلل هذه الآيات من غير أحكام المأكولات في التنويع والإباحة خلاف ذلك سوى الأمر بزكاة الحرث في قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده} فدارت هذه الآيات على ما أنعم به سبحانه من ضروب ما خلقه تعالى مما أقام به حياة عباده، مأكلاً، وملبساً، ومعونةً في حركاتهم وانتقالاتهم، ومباح ذلك ومحرمه، فلم يكن ليلائم ذلك إلا ما يناسبه، ولم يكن ليناسب الآية المتقدمة لو قيل: كلوا، ولا هذه الآية لو قيل: انظروا، فجاء كل على ما يجب ويلائم، ولا يناسب خلافه.

وقد أجاب ابن جماعة عن السؤال الأول بأن مجيء قوله تعالى في الآية الأولى: {مشتبها وغير متشابه} وفي الآية الأخرى: {متشابها وغير متشابه} مرده إلى أن أكثر ما جاء في القرآن من هاتين الكلمتين جاء بلفظ التشابه، نحو قوله سبحانه: {وأتوا به متشابها} (البقرة:25) وقوله تعالى: {إن البقر تشابه علينا} (البقرة:70) وقوله عز وجل: {تشابهت قلوبهم} (البقرة:118) وقوله جلَّ شأنه: {وأخر متشابهات} (آل عمران:7) فجاء قوله سبحانه: {مشتبها وغير متشابه} في الآية الأولى، و{متشابها وغير متشابه} في الآية الأخرى على تلك القاعدة.

ثم كان لقوله {متشابها} معنيان: أحدهما: التبس. والثاني: تساوى، وما في البقرة معناه التبس فحسب، فبين بقوله سبحانه: {متشابها} ومعناه ملتبساً؛ لأن ما بعده من باب التساوي.

هذا، ولم يتعرض المفسرون -فيما رجعنا إليه- إلى وجه الاختلاف بين الآيتين، سوى ما ذكره ابن عاشور من أن {مشتبها} و{متشابها} هما بمعنى واحد؛ لأن التشابه حاصل من جانبين، فليست صيغة التفاعل للمبالغة بدليل أنهما استويا في قوله: {وغير متشابه} في الآيتين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة