الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حرمة المسلم

حرمة المسلم

حرمة المسلم

حُرْمَةُ المسلم مُقرَّرة وثابتة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فلا يجوز إيذاؤه والاعتداء عليه ولا على شيء مما يملك، فكل أذى للمسلم في دمه وماله وعرضه مُحَرَّم.. فالمسلم محفوظ ومعصوم الدم والمال والعِرْض. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعِرْضه) رواه مسلم.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على حُرْمة دم المسلم وماله وعِرْضِه في حجة الوداع في خطبته المشهورة يوم النحر. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ يَوم النَّحْرِ فقال: يا أيُّها النَّاس أيُّ يَومٍ هذا؟ قالوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قال: فأيُّ بَلدٍ هذا؟ قالوا: بَلَدٌ حَرَام، قال: فأيُّ شَهْرٍ هذا؟ قالوا: شَهْرٌ حَرَام، قال: فإنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، فأعادها مِرَاراً، ثُمَّ رفع رأسَه فقال: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ. قال ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنه: فوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِه، إنَّها لوَصِيَّتُهُ إلى أُمَّتِه) رواه البخاري. قال ابن حجر: "قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة، وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم به، ولذلك قال بعدها: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء". وقال النووي: "(فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) معناه: أن تحريم هذه الأمور متأكّدَة شديدة".

مِنْ أعظم الحُرُمات حُرْمة المسلم، والسيرة النبوية مليئة بالمواقف والأحاديث الدالة على حُرمة المسلم في دمه وماله وعرضه، ومن ذلك:

حُرْمَةُ الدم:
مِن أعظم الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل: قتل مسلم بغير حق، قال ابن كثير في تفسيره: "لما بيّن تعالى حكم القتل الخطأ، شرع في بيان حكم القتل العمد، فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(النساء:93)، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول، سبحانه، في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}(الفرقان: 68)، وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى أن قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(الأنعام: 151)، والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا". قال السعدي: "وذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيداً ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول. فلم يَرِدْ في أنواع الكبائر أعظم مِن هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يُجازَى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته".
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمنُ في فُسْحَةٍ مِنْ دينه ما لَمْ يُصِبْ دَماً حراماً) رواه البخاري. قال العيني: "(في فسحة) أي: في سعة منشرح الصدر، وإذا قتل نفسا بغير حق صار منحصرا ضيقا لما أوعد الله عليه ما لم يوعد على غيره". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "وقال ابن العربي: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة، حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بِوِزْرِه، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول". وعن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: كُلُّ ذَنْبٍ عسى الله أن يغفره، إِلَّا مَنْ مات مُشْرِكاً، أَوْ مُؤْمِنٌ قتلَ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً) رواه أبو داود وصححه الألباني.
وروى البخاري في صحيحه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لي: يا أسامة، أقتلْتَه بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال: فقال: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال: فمازال يُكرِّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم)، وفي رواية مسلم: قال أسامة رضي الله عنه: (قلتُ يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ). فهذا الموقف النبوي مع أسامة بن زيد رضي الله عنه فيه: دلالة واضحة على عِظم حُرمة الدم، ووجوب الحكم بالظاهر، والتحذير الشديد من تجاوز الظاهر إلى السرائر، والحكم على ما في القلوب دون بينة ودليل.

حُرْمَة المال:
المال هو كل ما له قيمة للإنسان، وهو عصب الحياة، ولا يجوز لمسلم أن يأكل من مال أخيه المسلم إلا إذا كان ذلك عن رضا منه وطيب نفس، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لمال المسلم حُرمة، فلا يجوز أبدا الاعتداء عليه بالإتلاف أو السلب والنهب. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ اخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري. فلا يحل شيء من مال المسلم إلا بطيب نفسه ولو كان عوداً مِنْ سِواك. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنِ اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد اوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فَقال له رجُلٌ: وإنْ كان شيئا يسيراً يا رسول الله؟ قال: وإنْ كان قضِيبا مِنْ أَرَاك (عوداً مِنْ سِواك)) رواه مسلم.

حُرمة العِرْض:
كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم حُرْمةً في دمه وماله، جعل له أيضا حُرمة في عِرْضِه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعِرْضه) رواه مسلم. قال القاضي عياض: ".. فالدم كناية عن النفس، والعِرض كناية عن أذاه بالقول".

ولما عُرج بالنبي صلى الله عليه وسلم في رحلة ومعجزة الإسراء والمعراج: (مر على قوم لهم أظافر مِنْ نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) رواه أبو داود وصححه الألباني.
ولِعِظَم الأعراض دعانا نبينا صلى الله عليه وسلم للستر على المسلمين وعدم تتبع عوراتهم، فمن حفظ عرض أخيه المسلم وستر عورته، حفظ الله عرضه وستر عورته، ومن تتبع عورة أخيه المسلم وفضح عرضه، كشف الله عز وجل عورته حتى يفضحه بها في بيته. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومَنْ ستر مسلما ستره الله في الدنيا والاخرة) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: صعد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المنبرَ فنادى بصَوتٍ رفيع فقال: (يا مَعشرَ مَن أسلمَ بلِسانِه ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قَلبِه، لاَ تؤذوا المسلِمين، ولاَ تعيِّروهم، ولاَ تتَّبعوا عَوراتِهِم، فإنَّه مَن تَتبَّع عورةَ أخيهِ المسلمِ تَتبَّعَ اللَّهُ عورتَهُ، ومَن تتبَّع اللَّهُ عورتَهُ يفضَحْهُ ولَو في جَوفِ رَحلِه) رواه الترمذي وحسنه الألباني. قال الصنعاني: "(فإنه مَنْ تتبع عورة أخيه المسلم) ليكشفها للناس أو ليعلمها، (تتبع الله عورته) أي: عاقبه بإظهار عورته للناس التي يجب كتمها، عقوبة من جنس فعله".

فائدة: حُرمة المسلم حيّاً وميتا:
حُرْمة المسلم غير مقيدة بحياته، بل في حياته وباقية له بعد مماته. فعن أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ غسَّل ميتاً فكتم عليه غفر له أربعين مرة) رواه الحاكم وصححه الألباني. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَسْر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال ابن حجر: "يُستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد الموت باقية، كما كانت في حياته".

هذه بعض الأحاديث والمواقف النبوية الدالة على حُرمة المسلم عامة، وحرمته في دمه وماله وعِرْضِه خاصة، وهذا ما بينه وأكده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (فإنَّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرامٌ كحُرْمَةِ يومكم هذا في بلدِكم هذا في شهرِكم هذا)، وبقوله صلوات الله وسلامه عليه: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) رواه البخاري.

قال المناوي: "وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورة معروفة من الدين بالضرورة.. فالدم فيه حياته، ومادته المال فهو ماء الحياة الدنيا، والعرض به قيام صورته المعنوية، واقتصر عليها لأن ما سواها فرع عنها وراجع إليها، لأنه إذا قامت الصورة البدنية والمعنوية فلا حاجة لغيرهما وقيامهما إنما هو بتلك الثلاثة، ولكون حرمتها هي الأصل والغالب لم يحتج لتقييدها بغير حق، فقوله في رواية: (إلا بحقها) إيضاح وبيان".

بالعودة لهدي وشمائل نبينا صلى الله عليه وسلم تستقيم الحياة، وتصفو النفوس، وتؤدَّى الحقوق، وتُحْفَظ وتُصَان الدماء والأموال والأعراض، ويُعْطَى كل ذي حق حقه.. فمِن سعادة الأفراد والمجتمعات أن يرزقهم الله الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والائتمار بأمره، والانتهاء بنهيه، قال الله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7). قال ابن كثير: "أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر". وقال السعدي: "وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتعيَّن على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول صلى الله عليه وسلم على حُكم الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله صلى الله عليه وسلم".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة