الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مِنْ دروس غزوة تبوك (هُمُ الْعَدُو فاحْذَرْهُمْ)

مِنْ دروس غزوة تبوك (هُمُ الْعَدُو فاحْذَرْهُمْ)

مِنْ دروس غزوة تبوك (هُمُ الْعَدُو فاحْذَرْهُمْ)

تبوك موضع بين وادي القرى والشام، وتبعد اليوم عن المدينة المنورة نحو سبعمائة كيلو متر تقريبا، وقد سُمِّيَت غزوة تبوك بذلك لما رواه مسلم في صحيحه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك). وكذلك سُمِّيَت هذه الغزوة بغزوة العُسْرة، لِما كان فيها مِنْ شدة الحر، والضيق في النفقة والماء والدواب التي تحمل الجيش، وقد جاء هذا الاسم في قول الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ}(التوبة:117). وقال البخاري في صحيحه: "باب غزوة تبوك وهي غزوة العُسرة، ثم ساق حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ولفظه: (أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الْحُمْلَان لهم (الشيء الذي يركبون عليه ويحملهم) إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك)".

وقد وقعت أحداث غزوة تبوك في شهر رجب مِنْ سنة تِسع مِنَ الهجرة النبوية قبل حَجَّة الوداع بلا خلاف كما قال ابن حجر في "فتح الباري". وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك.. وهي آخر غزوة غزاها) رواه البخاري..
ونظراً للظروف الشديدة والصعبة التي أحاطت بهذه الغزوة، فقد صرَّح النبي صلى الله عليه وسلم بجهتها وطبيعتها على غير عادته، وذلك لإدراكه بُعْد المسافة، وكثرة المشقة، وقلة الزاد، وشدة الحر، وطبيعة العدوّ..
وقد جاء الفقراء والضعفاء وأصحاب الأعذار إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أنْ يعينهم بحملهم معه إلى الجهاد في سبيل الله في غزوة تبوك، فاعتذر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه لا يجد ما يحملهم عليه من الدوابّ، فانصرفوا وقد فاضت أعينهم حزنا وأسفاً على ما فاتهم مِنْ شرف الجهاد، فأنزل الله تعالى فيهم قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}(التوبة:92:91). قال السعدي: "{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} في أبدانهم وأبصارهم، الذين لا قوة لهم على الخروج والقتال، {وَلا عَلَى الْمَرْضَى} وهذا شامل لجميع أنواع المرض الذي لا يقدر صاحبه معه على الخروج والجهاد، من عرج، وعمى.. وغير ذلك، {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} أي: لا يجدون زادا، ولا راحلة يتبلغون بها في سفرهم، فهؤلاء ليس عليهم حرج، بشرط أن ينصحوا لله ورسوله، بأن يكونوا صادقي الإيمان، وأن يكون من نيتهم وعزمهم أنهم لو قدروا لجاهدوا، وأن يفعلوا ما يقدرون عليه مِنَ الحث والترغيب والتشجيع على الجهاد". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ بالمدينة أقواماً ما سِرتُم مسيرا ولا قطعتُم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: وهم بالمدينة، حبسهُمُ العذر) رواه البخاري.

وفي مقابل حُزن وبكاء أصحاب الأعذار على عدم استطاعتهم الخروج للجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ظهرت فئة تحمل الحِقد والبغض للإسلام وأهله، ولكنهم يعيشون بين المسلمين وينتسبون لدينهم في الظاهر وهم المنافقون، وحقيقتهم كما قال الله تعالى عنهم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}(المنافقون:1). قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرا عن المنافقين: إنهم إنما يتفوهون بالإسلام إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك، بل على الضد مِنْ ذلك، ولهذا قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} أي: إذا حضروا عندك واجهوك بذلك، وأظهروا لك ذلك، وليسوا كما يقولون.. ثم قال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أي: فيما أخبروا به، لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه، ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم". وقال السعدي: "لما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكَثُر المسلمون في المدينة واعتز الإسلام بها، صار أُناس مِنْ أهلها مِنَ الأوس والخزرج، يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، ليبقى جاههم، وتَسْلم أموالهم، فذكر الله مِن أوصافهم ما به يُعْرَفون، لكي يحذر العباد منهم، ويكونوا منهم على بصيرة، فقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا} على وجه الكذب: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق، مع أنه لا حاجة لشهادتهم في تأييد رسوله، فإن {اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} في قولهم ودعواهم، وأن ذلك ليس بحقيقة منهم".

وللمنافقين في غزوة تبوك مواقف وكلمات أظهرت نفاقهم قبل الغزوة وبعدها، ومِن ذلك:
ـ انصب موقف المنافقين قبل الغزوة في الاعتذار عن المشاركة فيها، خوفاً على أنفسهم مِنَ القتل أو الأسْر بسبب قوة الروم، مُتَعَلِّلين بِعِلَل واهية كما قال أحدهم معتذراً عن الخروج للغزوة: أخشى أن تفْتِنِّي نساء الروم، وفي ذلك قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}(التوبة:49). قال ابن كثير: "يقول تعالى: ومِنَ المنافقين مَنْ يقول لك يا مُحمد: {ائْذَنْ لِي} في القعود {وَلَا تَفْتِنِّي} بالخروج معك، بسبب الجواري مِنْ نساء الروم، قال الله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا".. وأخذ المنافقون يُضْعفون المسلمين، ويبثون بينهم الخوف والفزع مِن الروم، ويُخَذِّلونهم عن الخروج للقتال والجهاد كما قال الله تعالى عنهم: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}(التوبة:81). قال ابن كثير: "وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال والثمار، فلهذا قالوا: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} قال الله تعالى لرسوله: {قُلْ} لهم: {نَارُ جَهَنَّمَ} التي تصيرون إليها بسبب مخالفتكم {أَشَدُّ حَرّاً} مما فررتم منه مِنَ الحر"..
ـ ولم يكتف المنافقون بتخلف بعضهم عن الجهاد، وتثبيط المسلمين عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوة، بل أخذوا يستهزئون ويسخرون من المسلمين وقالوا: "ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء(يعنون الصحابة) أرغب بطونا، وأكذب ألسنة، وأجبن عند اللقاء. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتهم ووصل إليه خبرهم اعتذروا عن هذا الكلام القبيح، وقالوا إنما قلناه على سبيل الهزل واللعب وليس على سبيل الجد والحقيقة فأنزل الله تعالى فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}(التوبة:66:65). قال ابن كثير: "قال قتادَة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} قال: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبوك، وَرَكْبٌ مِنَ المنافقين يسيرون بَيْنَ يَدَيْه، فقالوا: يَظُنُّ هذا أن يَفْتَح قُصُورَ الرُّوم وَحُصُونَها. هَيْهَات هَيْهَات. فَأَطْلَع اللَّهُ نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فقال: عَليَّ بِهَؤلَاء النَّفر. فَدَعاهم، فقال: "قُلْتُمْ كذا وكذا". فَحَلَفوا ما كُنَّا إِلَّا نَخُوض ونَلْعَب".

ـ وفي أثناء عودة النبي صلى الله عليه وسلم مِن غزوة تبوك، حاول المنافقون قتله، ويصور لنا حُذيفة رضي الله عنه هذه الواقعة ـ كما ذكرها ابن كثير في "البداية والنهاية"، والبيهقي في "دلائل النبوة"، والسيوطي في "الخصائص الكبرى" والبزار في مسنده ـ فيقول: (كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به وعمّار يسوق الناقة، أو أنا أسوق وعَمّار يقود به، حتى إذا كنا بالعقبة إذا باثني عشر راكباً قد اعترضوه فيها، فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله: هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب، قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟ قلنا: لا، قال: أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيلقوه منها، قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: لا، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل بقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم. ثم قال: اللهم ارمهم بالدُبَيْلة، قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة؟! قال: هي شهاب من نار تقع على نياط قلب أحدهم فيهلك). قال ابن حجر: "الدبيلة: قيل قرحة في الباطن وقيل: طول المرض". وقال الصنعاني: "الدبيلة: الدمل الكبيرة التي تظهر في الجنب وتنفجر إلى الداخل وقلما سلم صاحبها". وقيل: قرحة تثقب البطن..
ـ ومِن مواقف المنافقين الخبيثة في غزوة تبوك، ومِن عجيب ما تفتقت عنه حيلهم في مكرهم وكيدهم للإسلام والمسلمين، اتفاقهم على بناء مسجد يلتقون فيه تحت ستار العبادة ورغبتهم في الخير، وهم في الحقيقة يريدون مِن خلاله تفريق المسلمين، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى غزوة تبوك ليصلي بهم فيه، فاعتذر النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجأ ذلك لحين عودته من غزوة تبوك، وفي أثناء عودته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة نزل عليه قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}(التوبة:108:107). قال ابن كثير: "فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قُباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العِلة (المرض) في الليلة الشاتية، فعصمه الله مِنَ الصلاة فيه فقال: إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله، فلما قفل (رجع) عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه مِنَ الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم ـ مسجد قباء ـ الذي أُسِّس مِنْ أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد منْ هدمه قبل مقدمه المدينة". وذكر ابن هشام في "السيرة النبوية" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمّار بن ياسر ومالك بن الدُخْشم مع بعض أصحابه وقال لهم: (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه ) ففعلوا.

مِنْ دروس السيرة النبوية في غزوة تبوك: بيان خطر النفاق والمنافقين، والذي هدد ويهدد الأمة الإسلامية على مَرِّ العصور، فبَلِيَّة المؤمنين بهم أعظم مِنْ بليتهم بالكفار المجاهرين والمحاربين، لأنهم لا يُظهرون ما يعتقدون مِنْ كفر، ويتآمرون على الإسلام والمسلمين في الخفاء، ولهذا قال الله تعالى عنهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}(المنافقون:4). قال الطبري: "يقول الله جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: هم العدوّ يا محمد فاحذرهم، فإن ألسنتهم إذا لَقُوكم معكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عين لأعدائكم عليكم". وقال السعدي: "فهؤلاء {هُمُ الْعَدُوُّ} على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز، أهون مِنَ العدو الذي لا يشعر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين، {فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي: كيف يُصْرَفون عن الدين الإسلامي - بعد ما تبينت أدلته، واتضحت معالمه - إلى الكفر الذي لا يفيدهم إلا الخسار والشقاء"..

وقال عنهم ابن القيم في "طريق الهجرتين": "طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسوله، وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}(النساء:145)، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم في دركات النار. لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}(المنافقون:4)، ومثل هذا اللفظ يقتضى الحصر، أي لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد هاهنا حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم، بل هذا مِنْ إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف". وقد جعل الله عز وجل مصير هؤلاء المنافقين الذين يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر في أسفل النار كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا}(النساء:145). قال السعدي: "يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم في أسفل الدركات مِن العذاب، وأشَرّ الحالات مِنَ العقاب. فهم تحت سائر الكفار لأنهم شاركوهم بالكفر بالله ومعاداة رسله، وزادوا عليهم المكر والخديعة والتمكن مِنْ كثيرٍ مِنْ أنواع العداوة للمؤمنين، على وجه لا يُشْعَر به ولا يُحَسّ. ورتبوا على ذلك جريان أحكام الإسلام عليهم، واستحقاق ما لا يستحقونه، فبذلك ونحوه استحقوا أشد العذاب، وليس لهم منقذ من عذابه ولا ناصر يدفع عنهم بعض عقابه، وهذا عام لكل منافق إلا مَنْ مَنَّ الله عليهم بالتوب".

لقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم في أحداث غزوة تبوك وغيرها مِن مواقف وأحداث مع المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام طريق اللين والإغضاء، يقبل منهم أعذارهم على ضعفها وكذبها، فإذا وقع أحدهم في خيانة ربما تُهدر دمه، تجاوز عنه حتى لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، وماهُم مِنْ صحبته في شيء، ولكن هكذا ربما يقول الناس، وفي ذلك يقول ابن تيمية: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه"..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة