الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الوسواس القهري الشديد في الصلاة ونحوها وعلاجه

السؤال

أنا من أسرة متدينة والحمد لله، وقد ترعرت في أطهر بقاع الأرض، ثم عدت إلى وطني، وفي هذا الوقت كنت شديدة القرب من الله عز وجل، وقد تذوقت حلاوة الإيمان والحمد لله، ولكني بعد ذلك، بدأت معي بعض الوساوس الشيطانية، والتي تعيق صلاتي.

قد كنت قبلها أعاني من وساوس في الوضوء، ولكن انتقلت إلى صلاتي بشكل مختلف، فقد كانت وساوس عن ذات الله - سبحانه وتعالى عما يصفون - وبدأت تتعلق بأمور عن الله، ولكني كنت أجاهدها بشتى الطرق، وهي معي إلى الآن منذ حوالي أربع سنوات.

تزداد هذه الوساوس يوماً بعد يوم في شدتها، وما يؤرقني أنها تتعلق بربي عز وجل! ولكني لا دخل لي فيها، وفي نفس الوقت أخاف أن أستسلم لها! وهذه الوساوس جعلتني أكلم نفسي بصوت عال؛ لأكذب ما يأتي في عقلي، حتى ظن المحيطون بي أنني مريضة، ولكن هذا لا يهمني.

أصبحت أقوم بحركات لا إرادية، وأهمهم بكلمات، أما عندما أصلي، فيوسوس لي الشيطان، بأن الله عز وجل هو أي شخص أقابله في حياتي، ويوحي لي أن صلاتي موجهة لهذا الشخص - والعياذ بالله - ولكني أقاوم، فقد تدخل في نيتي أيضاً، فذلك يجعلني أتكلم في صلاتي، وأدافع وأجاهد.

أقوم بحركات حتى في صلاتي، وقد أعمد إلى ضرب نفسي؛ لكي أخفف حدة ألمي النفسي، ولأهدأ قليلاً، وإلى أن أنتهي من صلاتي أتنفس الصعداء، وكأني قد خنقت! لأني أصل في صلاتي إلى الذروة من التعب النفسي والعضوي، إلى أن أضرب نفسي كما قلت سابقا!

تراودني أسئلة غريبة، مثل: أين الله؟ والعياذ بالله، ولماذا لا أعتنق المسيحية؟ والعياذ بالله وأجارني الله من ذلك! وكذلك أي شخص أراه، يهيئ لي الشيطان ويوسوس لي أنه الله! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

أدافع عن الله، وعن ديني بكل ما أوتيت من قوة، ولكني أخشى أن أستسلم؛ لأني قد وصلت لأقصى درجة من التعب، وأنا صابرة والحمد لله، وهذه الوساوس جعلتني دائماً حزينة، لا أعرف معنى السعادة، وأخاف أن أرى الأشخاص، أو أي شيء يجعل هذه الوساوس تتحرك في رأسي، وأخاف أن أقرأ أي شيء! فكل ما أراه وكل ما أقرؤه، يحوله الشيطان إلى وساوس تتعلق بذات الله.

ذلك يؤرقني، ويعكر صفو صلاتي وقرائتي للقرآن؛ فكل كلمة أنطق فيها بلفظ الجلالة، تتحول إلى ألم نفسي، ومعاناة وجهاد! أريد أن أشعر بتلك الكلمات، وبحلاوة الإيمان.

أرجوكم ساعدوني، بارك الله فيكم!

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم.
الأخت الفاضلة/ راجية حفظها الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

الوساوس القهرية هي أحد الأمراض النفسية العصابية، وحين نقول الأمراض، هذا إن شاء الله يخفف عليك كثيراً، والإنسان يمكن أن يبتلى، وهي إن شاء الله من الابتلاءات البسيطة، ومن نعم الله تعالى أنها أصبحت الآن يمكن أن تعالج وبصورة فعّالة وجيدة جدّاً.

الوساوس تنقسم إلى عدة أقسام، هنالك ما يتعلق بالتفكير، وقد تكون نوعاً من الخيالات، أو نوعاً من الأفكار الإجترارية المستمرة، أو نوعا من الطقوس والأفعال أو مخاوف أو شكوك ... وهكذا، وهي بطبيعتها متسلطة على الإنسان وتسبب له ألماً كثيراً، بالرغم من إيمانه بسخفها وأنها ليست حقيقة بصفة كاملة.

هنالك عدة نظريات يعتقد أنها وراء حدوث هذه الوساوس؛ فشخصية الإنسان ربما تلعب دوراً، وهي بكل صدق تأتي للأشخاص من أصحاب النفوس الطيبة والقيم الرفيعة والعالية، هذا هو الذي دلت عليه الأبحاث الحديثة، ويعتقد أيضاً أنها ربما تكون مكتسبة ومتعلمة نسبة لأشياء بسيطة حدثت للإنسان ولكنه لم يلاحظها في وقتها.

ثالثاً: وهذه هي النظرية المؤكدة الآن، أنه يوجد بعض الاضطراب الكيمائي البسيط في المُوَصِّلات والمرسلات العصبية لدى الإنسان، وأكثر مادة تمت دراستها هي مادة تعرف باسم سيرتونين، وجد أنه هنالك اضطرابا في إفرازها لدى الأشخاص الذين يعانون من الوساوس القهرية، ويكون هذا الاضطراب في مناطق معينة في المخ، منها الفص الأمامي، وكذلك منطقة تعرف باسم قناة أو خلية كُوديت.

هذا التفسير ضروري جدّاً في نظري؛ لأن الأمر قد اختلط على كثير من الناس، ورأى الناس أن هذه الوساوس هي من الشيطان، لا شك أن الشيطان يوسوس للإنسان ويدخل عليه، ولكنه يوسوس له ليجره للضلال، وليس لأكثر من ذلك في نظري، وقطعاً هنالك من هو أجدر مني بأن يتحدث في هذا المجال، ولكن أرجو أن أؤكد لك أنها حالة نفسية طبية، ودائماً الفكرة الوسواسية تنشأ من معتقدات الناس أو مما تعودوا عليه؛ خاصة الفكر الخاص بهم، ويعتبر الفكر والمعتقد الديني هو أمر خاص بالإنسان.

أختي الفاضلة: إن شاء الله هي علامة من علامات قوة إيمانك، وليست من علامات ضعفه مطلقاً، وقد أفتى العلماء الأفاضل – جزاهم الله خيراً – أن هذه الوساوس القهرية لا حرج على صاحبها مطلقاً.

سائل العلاج: أولاً هي كثيرة ومتوفرة وجيدة، وتتطلب فقط الالتزام والتطبيق، أولها العلاج السلوكي، وأول خطوات العلاج السلوكي هو أن تقتنعي أن هذه الفكرة فكرة وسواسية سخيفة لا أساس لها؛ لأن ذلك مهم ويمهد لك مقاومتها.

ثانياً: عليك أن تحقريها، وألا تعطيها اهتماماً، وأن تقولي مع نفسك حين تأتيك الفكرة: هذه فكرة وسواسية لن أتبعها إن شاء الله مطلقاً.

ثالثاً: أرجو أن تحددي الفكرة الوسواسية، ثم بعد ذلك تحددي الفكرة أو الكلمة المضادة لها، وتتأملي في هذه الكلمة المضادة المقابلة، وتحاولي أن تثبتي الكلمة أو الفكرة المضادة للفكرة الوسواسية حتى تسيطر على تفكيرك، هذا يعتبر أمراً ضرورياً جدّاً.

رابعاً: عليك حين تنتابك هذه الأفكار أن تقومي باستشعار مخالف لها، كإيقاع الألم بنفسك، مثلاً تقومي بالضرب على يديك بجسم صلب بقوة وشدة، حتى يحدث لك ألماً شديداً، وفي هذه الأثناء تفكرين في الفكرة الوسواسية، اقتران هذا الألم بالفكرة سوف يضعفها، هذه التمارين بالطبع لابد أن تكرر عدة مرات ولعدة أيام حتى تختفي إن شاء الله هذه الأفكار.

قولي أيضاً مع نفسك: هذه فكرة حقيرة، ويمكنك أن تنظري على الأرض وتبصقي عليها، إمعاناً في إهانتها وإضعافها، هذه حقيقة كلها إن شاء الله وسائل علاجية ناجحة إذا اتبعها الإنسان بصورة صحيحة.

ملخص الأمر السلوكي هو ألا أتبع الفكرة، ألا أعطيها قيمة، أن أستبدلها بما هو مضاد.

عليك أيضاً القيام تطبيقات عملية: مثلاً في الصلاة يمكنك أن تحددي وقت الصلاة؛ أي الوقت الذي سوف تستغرقه الصلاة منك ولا تتجاوزيه، ويمكن أيضاً الاستعانة بإحدى أخواتك حتى تصلي معكِ، وهذا يمكن أن يكون في المرحلة الأولى بعد ذلك يمكنك الصلاة لوحدك.

الطريقة الثانية في العلاج وهي هامة جدّاً وهي العلاج الدوائي،فالحمد لله اتضح أن الأدوية التي تنظم مادة السيرتونين تساعد وتقهر الوساوس القهرية بشكل فعّال وجيد، فقط تتطلب الصبر وبناء الجرعة بصورة صحيحة والالتزام بمدة العلاج.

هنالك عدة أدوية، خمسة أو ستة أدوية كلها تقريباً جيدة وفعّالة، ولكن أكثر الأدوية التي تم بحثها هي البروزاك والفافرين، الفافرين بالذات دواء يتمتع بقوة شديدة في محاربة الوساوس، ومن تجربتي المتواضعة وجدت أن في مثل هذه الحالات إعطاء البروزاك مع الفافرين هو الطريقة الأفضل، وفي بعض الحالات نضيف دواء ثالث يعتبر أيضاً مدعما، ولكن لا أرى أنك في حاجة له في الوقت الحاضر.

أرجو أن تبدئي بالعقار الذي يعرف باسم بروزاك بجرعة كبسولة واحدة في الصباح بعد الأكل، وفي نفس الوقت تناولي علاجاً آخر وهو الفافرين بجرعة 50 مليجرام ليلاً، وبعد أسبوعين ارفعي هذه الجرعة إلى 100 مليجرام، ثم بعد شهر ارفعي الجرعة إلى 200 مليجرام.

إذن: تكون الجرعة العلاجية الصحيحة هي كبسولة واحدة من البروزاك في الصباح، و200 مليجرام من الفافرين ليلاً، ويفضل أن يتم تناولها بعد الأكل، أرجو أن تستمري على هذه الجرعة لفترة تسعة أشهر، وهذه حقيقة ليست مدة طويلة كما يتخيل البعض، ولكن الأبحاث تدل أنها هي المدة العلاجية الصحيحة.

بعد انقضاء التسعة أشهر أرجو أن تخففي الفافرين إلى بمعدل 50 مليجرام كل شهر حتى تتوقفي عنه، وفي هذه الأثناء تكوني مستمرة على البروزاك، بعدها استمري البروزاك لمدة شهرين من انتهاء الفافرين ويمكنك التوقف عنه، وفي هذه الأثناء يمكنك إن شاء الله أن تتواصلي معنا، وأنا على ثقة كاملة بإذن الله تعالى أنك سوف تتحسني تماماً بعد شهر تقريباً من بداية الدواء والالتزام بالعلاجات السلوكية.

حتى الأعراض الثانوية إن شاء الله سوف تختفي؛ لأن الوسواس دائماً تؤدي إلى شعور بالإحباط وبالقلق وعدم الفاعلية، هذا كله بإذن الله تعالى سوف ينتهي، ونسأل الله لك الشفاء.

وبالله التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأكثر مشاهدة

الأعلى تقيماً