الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سوء معاملة أمي جعلتني لا أحبها.. فما نصيحتكم لي؟

السؤال

السلام عليكم
سؤالي باختصار عن علاقتي مع والديّ.

لا أذكر منذ طفولتي إلا قسوة أمي، وجفاء أبي، وبروده؛ فأمي كانت تغضب دائماً على أتفه الأسباب، وتصرخ وتضربني بسبب أو بدونه، فصرت أكرهها! وحتى بعد أن كبرت خفت عصبيتها، لكنني لم أتقبلها، ولا أعتقد أني سأتقبلها في يوم، وأبي كان على النقيض تماماً، وإن كان قليل الاهتمام، لكنه كان حنوناً في اللحظات التي يكون فيها معنا، وفي ظل تلك الأجواء نشأت أنا، ومع الأسف طباعي حادة وعصبية لأبعد مدى، لدرجة أني أحياناً لا أفرق مع من أتكلم من شدة الغضب والثوران، وهذا يؤثر على بري لوالديّ؛ فرغم عدم تقبلي لأمي أحاول أن أطيع ربي فيها، ولكن أحياناً تفقدني السيطرة على أعصابي فأثور!

أدري أن هذا خطأ وأندم، لكني لا أعتذر إلا نادراً، وأحياناً أقول هي السبب، وهي التي جعلتني أعتاد العصبية، وأهلي لم ينكروا ذلك، بالعكس كانوا يمدحونني ويقولون أنت قوية. أدري أنه خطأ، لكنه طبعي الذي لم أستطع تغييره! وأيضاً لم أعتد على التقرب منهم، لم أعتد على احتضان أمي لي أو تقبيل أبي لجبيني، ببساطة: حياتنا جافة لأبعد الحدود!

ولكني الآن أحب أبي بشدة وأراه الكون كله! ولكن أمي تغضب دائماً؛ لأن أبي يعاملني بلطف، ولا يرفض لي طلباً، بل تسبه أحياناً، وتقول له: أنت لست رجلاً، وتخاف من ابنتك، فزاد غضبي عليها، واكتشفت أنها تكلم رجالاً، فلم أتحمل، واجهتها ولكنها عنفتني وقالت إنها لا تفعل شيئاً خاطئاً!

أنا لا أحبها، ولكني أشفق على أبي أن لديه زوجة مثلها، أنا لم أخبر أبي ولن أخبره! ولكنه أمر صعب، وساءت نفسيتي بسبب ذلك، وزاد بغضي لها، أنا أعلم أن الجميع يخطئ، ولكن لا يصر على الخطأ، وهي لا تعترف بذلك!

بماذا تنصحونني، وكيف أتعامل مع والديّ وأتحكم في انفعالاتي؟ وما الحل مع أمي؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضل/ سارة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك في موقعك "إسلام ويب"، وإنَّا سعداء بتواصلك معنا، ونسأل الله أن يحفظك من كل مكروه، وأن يقدِّر لك الخير حيث كان، وأن يرضيك به، وبخصوصِ ما تفضلت بالسُّؤال عنه فإنَّنا نحبُّ أن نجيبك من خلال ما يلي:

أولاً: لقد استمعنا إلى مشكلتك بعناية واهتمام، ونحن متفهمون تماماً لطبيعة ما أنت فيه، ومدركون أثر هذه التنشئة عليك، ونود منك الآن أن تقرئي رسالتنا بتجرد وإنصاف؛ فالله يعلم أن الخير نريده لك، وأن السعادة نتمناها لك ولكل مسلم.

ثانياً: قد تحدثت عن قسوة والدتك معك، وأنك لا تتذكرين من حياتك معها إلا كل مكروه، وهذا حكم فيه تجاوز على الفطرة وعلى الأمومة؛ فمحبة الأم لابنتها يفوق تصورها وخيالها، والأمومة لا تنتزع من قلب الأمهات أبداً، هي من حملتك وعانت في ذلك أشد المعناة، وقد أوصاك الله بها فقال: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) وقوله سبحانه: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) أي: مشقة على مشقة، فلا تزال تلاقي المشاق، بداية من الوحم، والمرض، والضعف، والثقل، وتغير الحال، ثم وجع الولادة؛ ذلك الوجع الشديد الذي هو شبيه الموت، ولا يعرف شدته إلا من قاساه من الأمهات. ثم قال الله (وفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها، ولا يكاد يستغني عنه في سائر أحواله، هذه المعاناة وحدها كفيلة أن تكون البنت أسيرة أمها حتى الممات، وغداً ستدركين ذلك حين تكونين أماً أختنا الكريمة.

ثالثاً: نحن نصدقك في شعورك، ونقر بأن هناك أخطاء تربوية قد تحدث من الآباء والأمهات، أكثرها له أسباب، وأقلها يأتي تحت ضغوط اجتماعية أو نفسية، لكن هذه الأخطاء لا تنكر الثوابت الفطرية الحاكمة؛ بأن حب الأم لابنتها حب فطري لا يمكن تبديله، لكنه يزيد وينقص بالإهمال أو الرعاية.

رابعاً: بر البنت بأمها ليس معاوضة، بمعنى أن الله لم يأمر بطاعتهم متى ما أحسنوا فقط! بل طاعتهم وبرهم واجب وإن أساؤوا، وواجب رعايتهم والتودد لهم، وطاعتهم في غير معصية فرض عليك، ولن تسألي يوم القيامة عن أخطاء لم تفعليها، وجرائم لم ترتكبيها، إنما ستحاسبين فقط على ما اقترفته يداك.

خامساً: إننا نود منك أن تشتري جنة عرضها السماوات والأرض ببرك لها، وإن أخطأت أو حدثت من لا يحل لها الحديث معه، عليك برها والتودد إليها ونصحها بالمعروف؛ فهي أحد أبوابك إلى الجنة، ولعل الله يستنقذها بك من هذا الجو الذي تعيش فيه، وتربحين أنت رضا مولاك عليك، وأنت فيما يبدو عليك فتاة متدينة تخاف الله وترجو جنته، فالله الله في برها، فعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نمت، فرأيتني في الجنة، فسمعت صوت قارئ يقرأ، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذاك البر، كذاك البر، وكان أبر الناس بأمه.

وقيل للتابعي الجليل الإمام الحسن البصري: ما البر؟ قال: الحب والبذل. قيل: وما العقوق؟ قال: أن تهجرهما وتحرمهما. ثم قال الحسن: النظر إلى وجه الأم عبادة، فكيف برها!

سادساً: العقل تابع للعاطفة سلباً وإيجاباً؛ فكلما أكثرت من تذكر السلبيات؛ انعكس ذلك عليك ضيقاً وهماً وغماً وكرهاً، والعكس بالعكس؛ لذا ندعوك إلى تذكر كل إيجابية مرت عليك، وتجاهل السلبيات، إما بالتبرير المنطقي أو التجاهل، واجتهدي في برها، بل ندعوك أختنا إلى أن تذهبي لوالدتك بودٍّ صافٍ وعقلٍ مُتفتحٍ، وأن تُحدِّثيها بحب، وستجدين الخير من وراء ذلك إذا ما صبرت على هذا الطريق، وتذكري أنها فاكهة منصرفة فاستغلي وجودها بين يديك، واغتنمي مرضاة الله ببرها.

نسأل الله أن يحفظك وأن يرعاك.

والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً