فصل
فهذه ، وتبين لك اعتبار أمور : أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة
( أحدها ) : الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله .
والثاني : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما غفل معناه وجرى على [ ص: 628 ] ذوق المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول ، فلا مدخل لها في التعبدات ، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية ، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل ، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره ، والحج . . . ونحو ذلك .
فيتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المحض المنافي للمناسبات التفصيلية .
ألا ترى أن الطهارات ـ على اختلاف أنواعها ـ قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جدا لما يظهر لبادي الرأي ؟
فإن دون المخرجين فقط ، ودون جميع الجسد ، البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما تطهير أعضاء الوضوء دون دم المخرج فقط ، ودون أعضاء الوضوء . فإذا خرج المني أو دم الحيض وجب غسل جميع الجسد
ثم إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء [ إذا أحدث ] ، وغير واجب مع قذارتها بالأوساخ والأدران إذا فرض أنه لم يحدث .
ثم . التراب ـ ومن شأنه التلويث ـ يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف
ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها ، لاستواء الأوقات في ذلك .
وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها ، فإذا أقيمت ابتدأت إقامتها بأذكار أيضا ، [ ص: 629 ] ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات ، وكل ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس ، إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على غير ذلك ، ثم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد ، فإذا دخل المتطهر المسجد أمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالموتر ، أو أربع كالظهر ، فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة ، فإذا قرأ [ آية ] سجدة سجد واحدة دون اثنتين .
ثم أمر بصلاة النوافل ونهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة ، وعلل النهي بأمر غير معقول المعنى .
ثم كالعيدين والخسوف والاستسقاء ، دون صلاة الليل ورواتب النوافل . شرعت الجماعة في بعض النوافل
فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولا ، فإنه غير مكلف ، ثم أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد ، والتكبير أربع تكبيرات دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد .
فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرا كإمساك النهار دون الليل ، والإمساك عن المأكولات والمشروبات ، دون الملبوسات والمركوبات ، والنظر والمشي والكلام ، وأشباه ذلك ، وكان الجماع ـ وهو راجع إلى الإخراج ـ كالمأكول ـ وهو راجع إلى الضد ، [ ص: 630 ] وكان شهر رمضان ـ وإن كان قد أنزل فيه القرآن ـ ولم يكن أيام الجمع ، وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس ، أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل . ثم الحج أكثر تعبدا من الجميع .
وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه . فاعلموا أن في هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده ونحا نحوه واعتبرت جهته ، وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة ، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه ، وسواء علينا أقلنا : إن التكاليف معللة بمصالح العباد ، أم لم نقله : اللهم إلا قليلا من مسائلها ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين المنصوص عليه ، والمسكوت عنه ، فلا حرج حينئذ فإن أشكل الأمر ، فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل ، فهو العروة الوثقى للمتفقه في الشريعة والوزر الأحمى .
ومن أجل ذلك قال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ : كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا ، فاتقوا الله يا معشر القراء ، وخذوا بطريق من كان قبلكم ونحوه أيضا ، وقد تقدم من ذلك كثير . لابن مسعود
ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن [ ص: 631 ] ظهرت لبادي الرأي ، وقوفا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه ، فلم يلتفت في إزالة الأخباث ، ورفع الأحداث ، إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره ، حتى اشترط في رفع الأحداث النية ، ولم يقم غير الماء مقامه عنده ـ وإن حصلت النظافة ـ حتى يكون بالماء المطلق ، وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واقتصر في الكفارات على مراعاة العدد ، وما أشبه ذلك .
ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب ـ إن تصور ـ لقلة ذلك في التعبدات وندوره ، بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول ، فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية ، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا يناقض أصلا من أصوله ، حتى لقد استشنع العلماء كثيرا من وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة ، وفتح باب التشريع ، وهيهات ما أبعده من ذلك ! رحمه الله ، بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتباع ، بحيث يخيل لبعض أنه مقلد لمن قبله ، بل هو صاحب البصيرة في دين الله ـ حسبما بين أصحابه في كتاب سيره ـ .
بل حكي عن أنه قال : إذا رأيت الرجل يبغض أحمد بن حنبل مالكا فاعلم أنه مبتدع ، وهذه غاية في الشهادة بالاتباع .
وقال أبو داود : أخشى عليه البدعة ( يعني المبغض لـ مالك ) .
[ ص: 632 ] وقال ابن المهدي : إذا رأيت الحجازي يحب فاعلم أنه صاحب سنة ، وإذا رأيت أحدا يتناوله فاعلم أنه على خلاف السنة . مالك بن أنس
وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام : ما سمعت أبا داود لعن أحدا قط إلا رجلين : أحدهما : رجل ذكر له أنه لعن مالكا ، والآخر : . بشر المريسي
وعلى الجملة فغير مالك أيضا موافق له في أن أصل العبادات عدم معقولية المعنى ، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل ، فالأصل متفق عليه عند الأمة ، ما عدا الظاهرية ، فإنهم لا يفرقون بين العبادات والعادات ، بل الكل غير معقول المعنى ، فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلا عن أن يعتقدوا المصالح المرسلة .
والثالث : أن حاصل ، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به . . . فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد ، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد . المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ، ورفع حرج لازم في الدين
أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر من الأمثلة المذكورة .
وكذلك رجوعها إلى رفع حرج لازم ، وهو إما لاحق بالضروري ، وإما من الحاجي ، وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى التقبيح والتزيين البتة ، فإن جاء من ذلك شيء : فإما من باب آخر منها ، كقيام رمضان في المساجد جماعة ـ حسبما تقدم ـ وإما معدود [ ص: 633 ] من قبيل البدع التي أنكرها السلف الصالح ـ والتثويب بالصلاة ـ وهو من قبيل ما يلائم . كزخرفة المساجد
وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل وما لا يتم الواجب إلا به :
إن نص على اشتراطه ، فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب ، لأن نص الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه .
وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي ، فلا يلزم أن يكون شرعيا ، كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة ، فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب عاديا مطردا ؛ لصح ذلك ، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها ، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك ، ، وكذلك سائر المصالح الضرورية ـ إذا ثبت هذا ـ لم يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل .
وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضا ، وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج ، فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف ، والأمثلة مبينة لهذا الأصل أيضا .
إذا تقررت هذه الشروط علم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة :
لأن موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل ، والتعبدات من حقيقتها أن لا يعقل معناها على التفصيل .
وقد مر أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما يدخلها من جهة ما [ ص: 634 ] فيها من التعبد لا بإطلاق .
وأيضا ، فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع . بل إنما تتصور على أحد وجهين : إما مناقضة لمقصوده ـ كما تقدم في مسألة المفتي للملك بصيام شهرين متتابعين ـ وإما مسكوتا عنها فيه ؛ كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به ، وقد تقدم نقل الإجماع على اطراح القسمين وعدم اعتبارهما .
ولا يقال : إن المسكوت عنه يلحق بالمأذون فيه . إذ يلزم من ذلك خرق الإجماع ؛ لعدم الملاءمة . ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في أن المسكوت عنه كالمأذون فيه ، إن قيل بذلك ، فهي تفارقها . إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا أصل لها ؛ لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرح به ؛ بخلاف العادات ، والفرق بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة . وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى الله تعالى . وقد أشير إلى هذا المعنى في كتاب الموافقات وإلى هذا .
فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف ، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات ، لأن البدع من باب الوسائل ؛ لأنها متعبد بها بالفرض . ولأنها زيادة في التكليف وهو مضادة للتخفيف .
فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغى باتفاق العلماء . وحسبك به متعلقا . والله الموفق .
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئا من التعبدات إلى [ ص: 635 ] آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده . والزيادة عليه بدعة ، كما أن النقصان منه بدعة . وقد مر لهما أمثلة كثيرة وسيأتي أخيرا في أثناء الكتاب بحول الله .