فصل وأما فقال تعالى : ( طلاق السكران ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) [ النساء : 43 ] فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر ؛ لأنه لا يعلم ما يقول وصح عنه أنه أمر بالمقر بالزنى أن يستنكه ليعتبر قوله الذي أقر به أو يلغى .
وفي " صحيح " في البخاري حمزة لما عقر بعيري علي فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه يلومه فصعد فيه النظر وصوبه وهو سكران ثم قال : هل > [ ص: 191 ] أنتم إلا عبيد لأبي ، فنكص النبي - صلى الله عليه وسلم - على عقبيه . وهذا القول لو قاله غير سكران ، لكان ردة وكفرا ، ولم يؤاخذ بذلك قصة حمزة .
وصح عن - رضي الله عنه - أنه قال : ( ليس لمجنون ، ولا سكران طلاق ) ، رواه عثمان بن عفان ، عن ابن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن أبيه . أبان بن عثمان
وقال عطاء : ( طلاق السكران لا يجوز ) ، وقال ابن طاووس عن أبيه : ( طلاق السكران لا يجوز ) . وقال : لا يجوز طلاقه . القاسم بن محمد
وصح عن أنه أتي بسكران طلق ، فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو : لقد طلقها وهو لا يعقل ، فحلف ، فرد إليه امرأته ، وضربه الحد . عمر بن عبد العزيز
وهو مذهب ، يحيى بن سعيد الأنصاري وحميد بن عبد الرحمن ، وربيعة ، ، والليث بن سعد وعبد الله بن الحسن ، ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي ثور في أحد قوليه ، واختاره والشافعي المزني وغيره من الشافعية ، ومذهب أحمد في إحدى الروايات عنه ، وهي التي استقر عليها مذهبه ، وصرح برجوعه إليها ، فقال في رواية أبي طالب : الذي لا يأمر بالطلاق ، إنما أتى خصلة واحدة ، والذي يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين؛ حرمها عليه ، وأحلها لغيره ، فهذا خير من هذا ، وأنا أتقي جميعا . وقال في رواية الميموني : قد كنت أقول إن طلاق السكران يجوز حتى تبينته ، فغلب علي أنه لا يجوز طلاقه ؛ لأنه لو أقر ، لم يلزمه ، ولو باع لم [ ص: 192 ] يجز بيعه ، قال : وألزمه الجناية ، وما كان من غير ذلك ، فلا يلزمه . قال أبو بكر عبد العزيز : وبهذا أقول ، وهذا مذهب أهل الظاهر كلهم ، واختاره من الحنفية ، أبو جعفر الطحاوي . وأبو الحسن الكرخي
والذين أوقعوه لهم سبعة مآخذ .
أحدها : أنه مكلف ، ولهذا يؤاخذ بجناياته .
والثاني : أن إيقاع الطلاق عقوبة له .
والثالث : أن ترتب الطلاق على التطليق من باب ربط الأحكام بأسبابها ، فلا يؤثر فيه السكر .
والرابع : أن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كلامه ، فإنهم قالوا : إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وحد المفتري ثمانون .
والخامس : حديث : ( لا قيلولة في الطلاق ) ، وقد تقدم .
السادس : حديث : ( طلاق المعتوه ) ، وقد تقدم . كل طلاق جائز إلا
والسابع : أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق ، فرواه أبو عبيد عن عمر ، ومعاوية ، ورواه غيره عن . قال ابن عباس أبو عبيد : حدثنا ، عن يزيد بن هارون ، عن جرير بن حازم الزبير بن الحارث ، عن ، أن رجلا طلق امرأته وهو سكران ، فرفع إلى أبي لبيد ، وشهد عليه أربع نسوة ففرق عمر بن الخطاب عمر بينهما .
قال : وحدثنا ، عن ابن أبي مريم نافع بن يزيد ، عن عن جعفر بن ربيعة ، عن ابن شهاب ، أن سعيد بن المسيب معاوية أجاز طلاق السكران . هذا جميع ما احتجوا به ، وليس في شيء منه حجة أصلا .
[ ص: 193 ] فأما المأخذ الأول ، وهو أنه مكلف ، فباطل ، إذ الإجماع منعقد على أن ، ومن لا يعقل ما يقول فليس بمكلف . شرط التكليف العقل
وأيضا فلو كان مكلفا ، لوجب أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها ، أو غير عالم بأنها خمر ، وهم لا يقولون به .
وأما خطابه ، فيجب حمله على الذي يعقل الخطاب ، أو على الصاحي ، وأنه نهي عن السكر إذا أراد الصلاة ، وأما من لا يعقل فلا يؤمر ولا ينهى .
وأما إلزامه بجناياته ، فمحل نزاع لا محل وفاق ، فقال : لا يلزمه عقد ولا بيع ولا حد، إلا حد الخمر فقط ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد أنه كالمجنون في كل فعل يعتبر له العقل . عثمان البتي
والذين اعتبروا أفعاله دون أقواله ، فرقوا بفرقين ، أحدهما : أن إسقاط أفعاله ذريعة إلى تعطيل القصاص ، إذ كل من أراد قتل غيره أو الزنى أو السرقة أو الحراب ، سكر وفعل ذلك ، فيقام عليه الحد إذا أتى جرما واحدا ، فإذا تضاعف جرمه بالسكر كيف يسقط عنه الحد ؟ هذا مما تأباه قواعد الشريعة وأصولها ، وقال أحمد منكرا على من قال ذلك : وبعض من يرى طلاق السكران ليس بجائز يزعم أن السكران لو جنى جناية ، أو أتى حدا ، أو ترك الصيام أو الصلاة ، كان بمنزلة المبرسم والمجنون ، هذا كلام سوء .
والفرق الثاني : أن إلغاء أقواله لا يتضمن مفسدة ؛ لأن القول المجرد من غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف الأفعال ، فإن مفاسدها لا يمكن إلغاؤها إذا وقعت ، فإلغاء أفعاله ضرر محض ، وفساد منتشر بخلاف أقواله ، فإن صح هذان الفرقان ، بطل الإلحاق ، وإن لم يصحا كانت التسوية بين أقواله وأفعاله متعينة .
وأما المأخذ الثاني - وهو أن إيقاع الطلاق به عقوبة له - ففي غاية الضعف ، فإن الحد يكفيه عقوبة ، وقد حصل رضى الله سبحانه من هذه العقوبة [ ص: 194 ] بالحد ، ولا عهد لنا في الشريعة بالعقوبة بالطلاق ، والتفريق بين الزوجين .
وأما المأخذ الثالث : أن إيقاع الطلاق به من ربط الأحكام بالأسباب ، ففي غاية الفساد والسقوط ، فإن هذا يوجب إيقاع الطلاق ممن سكر مكرها ، أو جاهلا بأنها خمر ، وبالمجنون والمبرسم ، بل وبالنائم ، ثم يقال : وهل ثبت لكم أن طلاق السكران سبب حتى يربط الحكم به ، وهل النزاع إلا في ذلك ؟ .
وأما المأخذ الرابع : وهو أن الصحابة جعلوه كالصاحي في قولهم : إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى . فهو خبر لا يصح البتة .
قال : وهو خبر مكذوب قد نزه الله أبو محمد بن حزم عليا منه ، وفيه من المناقضة ما يدل على بطلانه ، فإن فيه إيجاب الحد على من هذى والهاذي لا حد عليه . وعبد الرحمن بن عوف
وأما المأخذ الخامس وهو حديث : ( لا قيلولة في الطلاق ) ، فخبر لا يصح ، ولو صح لوجب حمله على طلاق مكلف يعقل دون من لا يعقل ، ولهذا لم يدخل فيه طلاق المجنون والمبرسم والصبي .
وأما المأخذ السادس ، وهو خبر : ( ) ، فمثله سواء لا يصح ، ولو صح لكان في المكلف ، وجواب ثالث : أن السكران الذي لا يعقل إما معتوه ، وإما ملحق به ، وقد ادعت طائفة أنه معتوه . قالوا : المعتوه في اللغة : الذي لا عقل له ، ولا يدري ما يتكلم به . كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه
وأما المأخذ السابع : وهو أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق ، فالصحابة [ ص: 195 ] مختلفون في ذلك ، فصح عن عثمان ما حكيناه عنه .
وأما أثر ، فلا يصح عنه ، لأنه من طريقين ، في أحدهما ابن عباس ، وفي الثانية الحجاج بن أرطاة ، وأما إبراهيم بن أبي يحيى ابن عمر ومعاوية ، فقد خالفهما . عثمان بن عفان