أما قوله تعالى : ( فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : ( يا ليتنا ) يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا . فأما قوله : ( ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) ففيه قولان :
أحدهما : أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين .
فإن قالوا : هذا باطل ؛ لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية : ( وإنهم لكاذبون ) والمتمني لا يوصف بكونه كاذبا .
قلنا : لا نسلم أن ؛ لأن من أظهر التمني فقد أخبر ضمنا كونه مريدا لذلك الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه ، ومثاله أن يقول الرجل : ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك ، فهذا تمن في حكم الوعد ، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه لقيل : إنه كذب في وعده . المتمني لا يوصف بكونه كاذبا
القول الثاني : أن التمني تم عند قوله : ( ياليتنا نرد ) وأما قوله : ( ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية : ( وإنهم لكاذبون ) عائد إليه وتقدير الكلام : يا ليتنا نرد ، ثم قالوا : ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين ، ثم إنه تعالى كذبهم وبين أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان .
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر نرد ونكذب بالرفع فيهما ونكون بالنصب ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم نرد بالرفع ، ونكذب ونكون بالنصب فيهما ، والباقون بالرفع في الثلاثة ، فحصل من هذا أنهم اتفقوا على الرفع في قوله : ( نرد ) وذلك لأنه داخل في التمني لا محالة ، فأما الذين رفعوا قوله : " ولا نكذب . ونكون " ففيه وجهان :
الأول : أن يكون معطوفا على قوله : ( نرد ) فتكون الثلاثة داخل في التمني ، فعلى هذا قد تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين .
والوجه الثاني : أن يقطع ولا نكذب وما بعده عن الأول ، فيكون التقدير : يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ، فهم ضمنوا أنهم لا يكذبون بتقدير حصول الرد . والمعنى يا ليتنا نرد [ ص: 159 ] ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد أي قد عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبدا . قال : وهو مثل قولك دعني ولا أعود ، فههنا المطلوب بالسؤال تركه . فأما أنه لا يعود فغير داخل في الطلب ، فكذا هنا قوله : ( يا ليتنا نرد ) الداخل في هذا التمني الرد ، فأما ترك التكذيب وفعل الإيمان فغير داخل في التمني ، بل هو حاصل سواء حصل الرد أو لم يحصل ، وهذان الوجهان ذكرهما سيبويه الزجاج والنحويون قالوا : الوجه الثاني أقوى ، وهو أن يكون الرد داخلا في التمني ، ويكون ما بعده إخبارا محضا . واحتجوا عليه بأن الله كذبهم في الآية الثانية ، فقال : ( وإنهم لكاذبون ) والمتمني لا يجوز تكذيبه ، وهذا اختيار أبي عمرو . وقد احتج على صحة قوله بهذه الحجة ، إلا أنا قد أجبنا عن هذه الحجة ، وذكرنا أنها ليست قوية .
وأما من قرأ " ولا نكذب . ونكون " بالنصب ففيه وجوه :
الأول : بإضمار " أن " على جواب التمني ، والتقدير : يا ليتنا نرد وأن لا نكذب .
والثاني : أن تكون الواو مبدلة من الفاء ، والتقدير : يا ليتنا نرد فلا نكذب ، فتكون الواو ههنا بمنزلة الفاء في قوله : ( لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ) [ الزمر : 58 ] ويتأكد هذا الوجه بما روي أن ابن مسعود كان يقرأ " فلا نكذب " بالفاء على النصب .
والثالث : أن يكون معناه الحال ، والتقدير : يا ليتنا نرد غير مكذبين ، كما تقول العرب : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . أي : لا تأكل السمك شاربا للبن .
واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني . وأما أن المتمني كيف يجوز تكذيبه فقد سبق تقريره . وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع " ولا نكذب " وينصب " ونكون " فالتقدير : أنه يجعل قوله : ( ولا نكذب ) داخلا في التمني ، بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : قوله : ( فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب ) لا شبهة في أن المراد تمني ردهم إلى حالة التكليف لأن لفظ الرد إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال ، فالمفهوم منه الرد إلى الحالة الأولى . والظاهر أن من صدر منه تقصير ثم عاين الشدائد والأحوال بسبب ذلك التقصير أنه يتمنى الرد إلى الحالة الأولى ، ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات . ومعلوم أن ، وذلك التدارك لا يحصل بالعود إلى الدنيا فقط ، ولا بترك التكذيب ، ولا بعمل الإيمان بل إنما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني . الكفار قصروا في دار الدنيا فهم يتمنون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التقصيرات
فإن قيل : كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أن الرد لا يحصل البتة .
والجواب من وجوه :
الأول : لعلهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل .
والثاني : أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل ؛ إلا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرد كقوله تعالى : ( يريدون أن يخرجوا من النار ) [ المائدة : 37 ] وكقوله : ( أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ) [ الأعراف : 50 ] فلما صح أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل ، فبأن يتمنوه أقرب ، لأن باب التمني أوسع ، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يصح أن يريد من الأمور الثلاثة الماضية .