( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين )
قوله تعالى : ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) [ ص: 18 ] اعلم أنه تعالى لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ ، وأمر القوم بالقبول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في من الوعيد ، وفي الآية مسائل : ترك المتابعة والإعراض عنها
المسألة الأولى : قال الزجاج : ، وخبره أهلكناها . قال : وهو أحسن من أن يكون في موضع نصب : لأن قولك : زيد ضربته أجود من قولك : زيدا ضربته ، والنصب جيد عربي أيضا كقوله تعالى : ( موضع (كم) رفع بالابتداء إنا كل شيء خلقناه بقدر ) [القمر : 19] .
المسألة الثانية : قيل : في الآية محذوف ، والتقدير : وكم من أهل قرية ، ويدل عليه وجوه :
أحدها : قوله : ( فجاءها بأسنا ) والبأس لا يليق إلا بالأهل .
وثانيها : قوله : ( أو هم قائلون ) فعاد الضمير إلى أهل القرية .
وثالثها : إن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بإهلاكهم .
ورابعها : إن معنى البيات والقائلة لا يصح إلا فيهم .
فإن قيل : فلماذا قال أهلكناها ؟ أجابوا بأنه تعالى رد الكلام على اللفظ دون المعنى كقوله تعالى : ( وكأين من قرية عتت ) ( الطلاق : 8 ) فرده على اللفظ . ثم قال : ( أعد الله لهم ) فرده على المعنى دون اللفظ ، ولهذا السبب قال الزجاج : ولو قال : فجاءهم بأسنا لكان صوابا ، وقال بعضهم : لا محذوف في الآية ، والمراد إهلاك نفس القرية ؛ لأن في إهلاكها بهدم أو خسف أو غيرهما إهلاك من فيها ، ولأن على هذا التقدير يكون قوله : ( فجاءها بأسنا ) محمولا على ظاهره ولا حاجة فيه إلى التأويل .
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا ) يقتضي أن يكون الإهلاك متقدما على مجيء البأس وليس الأمر كذلك ، فإن مجيء البأس مقدم على الإهلاك ، والعلماء أجابوا عن هذا السؤال من وجوه : قوله : (
الأول : المراد بقوله : ( أهلكناها ) أي : حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا .
وثانيها : كم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كقوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) ( المائدة : 6 )
وثالثها : أنه لو قال : وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا لم يكن السؤال واردا ، فكذا ههنا ؛ لأنه تعالى عبر عن ذلك الإهلاك بلفظ البأس . فإن قالوا : السؤال باق ؛ لأن الفاء في قوله : ( فجاءها بأسنا ) فاء التعقيب ، وهو يوجب المغايرة . فنقول : الفاء قد تجيء بمعنى التفسير كقوله عليه الصلاة والسلام : فالفاء في قوله : فيغسل للتفسير ، لأن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه . فكذلك ههنا البأس جار مجرى التفسير ، لذلك الإهلاك ، لأن الإهلاك ، قد يكون بالموت المعتاد ، وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم ، فكان ذكر البأس تفسيرا لذلك الإهلاك . لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه
الرابع : قال الفراء : لا يبعد أن يقال : البأس والهلاك يقعان معا ، كما يقال : أعطيتني فأحسنت ، وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله ، وإنما وقعا معا فكذا ههنا ، وقوله : ( بياتا ) قال الفراء يقال : بات الرجل يبيت بيتا ، وربما قالوا : بياتا ، قالوا : وسمي البيت ؛ لأنه يبات فيه . قال صاحب "الكشاف" : قوله : ( بياتا ) مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين ، وقوله : ( أو هم قائلون ) فيه بحثان :
البحث الأول : أنه حال معطوفة على قوله : ( بياتا ) كأنه قيل : فجاءها بأسنا بائتين أو قائلين .
قال الفراء : وفيه واو مضمرة ، والمعنى : أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو وهم قائلون ، إلا أنهم استثقلوا الجمع بين حرفي العطف ، ولو قيل : كان صوابا ، وقال الزجاج : إنه ليس بصواب : لأن واو الحال قريبة من واو العطف ، [ ص: 19 ] فالجمع بينهما يوجب الجمع بين المثلين وأنه لا يجوز ، ولو قلت : جاءني زيد راجلا وهو فارس لم يحتج فيه إلى واو العطف .
البحث الثاني : كلمة "أو" دخلت ههنا بمعنى أنهم جاءهم بأسنا مرة ليلا ومرة نهارا ، وفي القيلولة قولان : قال الليث : القيلولة نومة نصف النهار . وقال الأزهري : الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر ، وإن لم يكن مع ذلك نوم ، والدليل عليه أن الجنة لا نوم فيها والله تعالى يقول : ( القيلولة عند العرب أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) ( الفرقان : 24 ) ومعنى الآية أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له ، إما ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم قائلون ، والمقصود : أنهم جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب ، فكأنه قيل للكفار : لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ ، فإن عذاب الله إذا وقع ، وقع دفعة من غير سبق أمارة ، فلا تغتروا بأحوالكم .
ثم قال تعالى : ( فما كان دعواهم ) قال أهل اللغة : الدعوى اسم يقوم مقام الادعاء ، ومقام الدعاء حكى : اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ، ودعوى المسلمين . قال سيبويه : فما كان تضرعهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ، فأقروا على أنفسهم بالشرك . قال ابن عباس : فما كان قولهم إذ جاءهم بأسنا إلا الاعتراف بالظلم والإقرار بالإساءة ، وقوله : ( ابن الأنباري إلا أن قالوا ) الاختيار عند النحويين أن يكون موضع أن رفعا بكان ، ويكون قوله : ( دعواهم ) نصبا كقوله : ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ) ( النمل : 56 ) وقوله : ( فكان عاقبتهما أنهما في النار ) ( الحشر : 17 ) وقوله : ( ما كان حجتهم إلا أن ) ( الجاثية : 25 ) قال : ويجوز أن يكون أيضا على الضد من هذا بأن يكون الدعوى رفعا ، وإن قالوا نصبا ، كقوله تعالى : (ليس البر أن تولوا ) ( البقرة : 177 ) على قراءة من رفع البر ، والأصل في هذا الباب أنه إذا حصل بعد كلمة كان معرفتان ، فأنت بالخيار في رفع أيهما شئت ، وفي نصب الآخر ، كقولك : كان زيد أخاك ، وإن شئت كان زيدا أخوك .
قال الزجاج : إلا أن الاختيار إذا جعلنا قوله : ( دعواهم ) في موضع رفع أن يقول : ( فما كانت دعواهم ) فلما قال : كان ، دل على أن الدعوى في موضع نصب ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه يجوز تذكير الدعوى ، وإن كانت رفعا فتقول : كان دعواه باطلا ، وباطلة ، والله أعلم .