( فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ) .
قوله تعالى : ( فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ) .
اعلم أن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة على صحة نبوته بين الله تعالى أن معجزته كانت ، والكلام في هذه الآية يقع على وجوه : قلب العصا ثعبانا ، وإظهار اليد البيضاء
الأول : أن جماعة الطبيعيين ينكرون إمكان انقلاب العصا ثعبانا ، وقالوا : الدليل على امتناعه أن تجويز انقلاب العصا ثعبانا يوجب ارتفاع الوثوق عن العلوم الضرورية ، وذلك باطل ، وما يفضي إلى الباطل فهو باطل ، إنما قلنا : إن تجويزه يوجب ارتفاع الوثوق على العلوم الضرورية ، وذلك لأنا لو جوزنا أن يتولد الثعبان العظيم من العصا الصغيرة لجوزنا أيضا أن يتولد الإنسان الشاب القوي عن التبنة الواحدة والحبة الواحدة من الشعير ، ولو جوز ذلك لجوزناه في هذا الإنسان الذي نشاهده الآن أنه إنما حدث الآن دفعة واحدة لا من الأبوين ، ولجوزنا في زيد الذي نشاهده الآن أنه ليس هو زيدا الذي شاهدناه بالأمس ، بل هو شخص آخر حدث الآن دفعة واحدة ، ومعلوم أن من فتح على نفسه أبواب هذه التجويزات فإن جمهور العقلاء يحكمون عليه بالخبل والعته والجنون ، ولأنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يقال : إن الجبال انقلبت ذهبا ومياه البحار انقلبت دما ، ولجوزنا في التراث الذي كان في مزبلة البيت أنه انقلب دقيقا ، وفي الدقيق الذي كان في البيت أنه انقلب ترابا ، وتجويز أمثال هذه الأشياء مما يبطل العلوم الضرورية ، ويوجب دخول الإنسان في السفسطة ، وذلك باطل قطعا ، فما يفضي إليه كان أيضا باطلا .
فإن قال قائل : تجويز أمثال هذه الأشياء مختص بزمان دعوة الأنبياء ، وهذا الزمان ليس كذلك ، فقد حصل الأمان في هذا الزمان عن تجويز هذه الأحوال .
فالجواب عنه من وجوه :
الأول : أن هذا التجويز إذا كان قائما في الجملة كان تخصيص هذا التجويز بزمان دون زمان مما لا يعرف إلا بدليل غامض ، فكان يلزم أن يكون الجاهل بذلك الدليل الغامض جاهلا باختصاص ذلك التجويز بذلك الزمان المعين ، فكان يلزم من جمهور العقلاء الذين لا يعرفون ذلك الدليل [ ص: 158 ] الغامض أن يجوزوا كل ما ذكرناه من الجهات وأن لا يكونوا قاطعين بامتناع وقوعها ، وحيث نراهم قاطعين بامتناع وقوعها علمنا أن ما ذكرتموه فاسد .
والثاني : أنا لو جوزنا أمثال هذه الأحوال في زمان دعوة النبوة فإنه يبطل أيضا به القول بصحة النبوة ، فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعبانا جاز في الشخص الذي شاهدناه أنه ليس هو الشخص الأول ، بل الله أعدم الشخص الأول دفعة واحدة وأوجد شخصا آخر يساويه في جميع الصفات ، وعلى هذا التقدير فلا يمكننا أن نعلم أن هذا الذي نراه الآن هو الذي رأيناه بالأمس ، وحينئذ يلزم وقوع الشك في الذين رأوا موسى وعيسى ومحمدا عليهم السلام أن ذلك الشخص هل هو الذي رأوه بالأمس أم لا ؟ ومعلوم أن تجويزه يوجب القدح في النبوة والرسالة .
والثالث : وهو أن هذا الزمان وإن لم يكن زمان جواز المعجزات إلا أنه زمان جواز الكرامات عندكم ، فيلزمكم تجويزه ، فهذا جملة الكلام في هذا المقام .
واعلم أن القول بتجويز انقلاب العادات عن مجاريها صعب مشكل ، والعقلاء اضطربوا فيه وحصل لأهل العلم فيه ثلاثة أقوال :
القول الأول : قول من يجوز ذلك على الإطلاق وهو قول أصحابنا ، وذلك لأنهم جوزوا تولد الإنسان وسائر أنواع الحيوان والنبات دفعة واحدة من غير سابقة مادة ولا مدة ولا أصل ولا تربية . وجوزوا في الجوهر الفرد أن يكون حيا عالما قادرا عاقلا قاهرا من غير حصول بنية ولا مزاج ولا رطوبة ولا تركيب ، وجوزوا في الأعمى الذي يكون بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقعة التي تكون بأقصى المشرق ، مع أن الإنسان الذي يكون سليم البصر لا يرى الشمس الطالعة في ضياء النهار ، فهذا هو قول أصحابنا .
والقول الثاني : قول الفلاسفة الطبيعيين وهو أن ذلك ممتنع على الإطلاق ، وزعموا أنه لا يجوز حدوث هذه الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين ، وقالوا : وبهذا الطريق دفعنا عن أنفسنا التزام الجهالات التي ذكرناها والمحالات التي شرحناها ، واعلم أنهم وإن زعموا أن ذلك غير لازم لهم ، إلا أنهم في الحقيقة يلزمهم ذلك لزوما لا دافع له ، وتقريره أن هذه الحوادث التي تحدث في عالمنا هذا إما أن تحدث لا لمؤثر أو لمؤثر ، وعلى التقديرين : فالقول الذي ذكرناه لازم ؛ أما على القول بأنها تحدث لا عن مؤثر ، فهذا القول باطل في صريح العقل ، إلا أن مع تجويزه فالإلزام المذكور لازم ؛ لأنا إذا جوزنا حدوث الأشياء لا عن مؤثر ولا عن موجد ، فكيف يكون الأمان من تجويز حدوث إنسان لا عن الأبوين ، ومن تجويز انقلاب الجبل ذهبا والبحر دما ؟ فإن تجويز حدوث بعض الأشياء لا عن مؤثر ليس أبعد عند العقل من تجويز حدوث سائر الأشياء لا عن مؤثر ، فثبت على هذا التقدير أن الإلزام المذكور لازم . أما على التقدير الثاني وهو إثبات مؤثر ومدبر لهذا العالم فذلك المؤثر إما أن يكون موجبا بالذات وإما أن يكون فاعلا بالاختيار .
أما على التقدير الأول فالإلزامات المذكورة لازمة ، وتقريره : أنه إذا كان مؤثرا ومرجحه موجبا بالذات وجب الجزم بأن اختصاص كل وقت معين بالحادث المعين الذي حدث فيه إنما كان لأجل أنه بحسب اختلاف الأشكال الفلكية تختلف حوادث هذا العالم ، إذ لو لم يعتبر هذا المعنى لامتنع أن تكون العلة القديمة الدائمة سببا لحدوث المعلول الحادث المتغير .
وإذا ثبت هذا فنقول : كيف الأمان من أن يحدث في الفلك شكل غريب يقتضي حدوث إنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل من الصورة الجبلية إلى الصورة الذهبية أو للصورة الحيوانية ؟ وحينئذ [ ص: 159 ] تعود جميع الإلزامات المذكورة . وأما على التقدير الثاني وهو أن يكون مؤثر العالم ومرجحه فاعلا مختارا ، فلا شك أن جميع الأشياء المذكورة محتملة ؛ لأنه لا يمتنع أن يقال : إن ذلك الفاعل المختار يخلق بإرادته إنسانا دفعة واحدة لا عن الأبوين ، وانتقال مادة الجبل ذهبا والبحر دما ، فثبت أن الأشياء التي ألزموها علينا واردة على جميع التقديرات وعلى جميع الفرق وأنه لا دافع لها البتة .
والقول الثالث : وهو قول المعتزلة ، فإنهم يجوزون انخراق العادات وانقلابها عن مجاريها في بعض الصور دون بعض ، فأكثر شيوخهم يجوزون حدوث الإنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين ، ويجوزون انقلاب الماء نارا وبالعكس ، ويجوزون حدوث الزرع لا عن سابقة بذر . ثم قالوا : إنه لا يجوز أن يكون الجوهر الفرد موصوفا بالعلم والقدرة والحياة ، بل صحة هذه الأشياء مشروطة بحصول بنية مخصوصة ومزاج مخصوص ، وزعموا أن عند كون الحاسة سليمة وكون المرئي حاضرا ، وعدم القرب القريب والبعد البعيد يجب حصول الإدراك ، وعند فقدان أحد هذه الشروط يمتنع حصول الإدراك . وبالجملة فالمعتزلة في بعض الصور لا يعتبرون مجاري العادات ، ويزعمون أن انقلابها ممكن ، وانخراقها جائز ، وفي سائر الصور يزعمون أنها واجبة ، ويمتنع زوالها وانقلابها ، وليس لهم بين الناس قانون مضبوط ولا ضابط معلوم ، فلا جرم كان قولهم أدخل الأقاويل في الفساد .
إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول : ذوات الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، وكل ما صح على الشيء صح على مثله ، فوجب أن يصح على كل جسم ما صح على غيره ، فإذا صح على بعض الأجسام صفة من الصفات وجب أن يصح على كلها مثل تلك الصفة ، وإذا كان كذلك كان جسم العصا قابلا للصفات التي باعتبارها تصير ثعبانا ، وإذا كان كذلك كان انقلاب العصا ثعبانا أمرا ممكنا لذاته ، وثبت أنه تعالى قادر على جميع الممكنات ، فلزم القطع بكونه تعالى قادرا على قلب العصا ثعبانا ، وذلك هو المطلوب ، وهذا الدليل موقوف على إثبات مقدمات ثلاث : إثبات أن الأجسام متماثلة في تمام الذات ، وإثبات أن حكم الشيء حكم مثله ، وإثبات أنه تعالى قادر على كل الممكنات . ومتى قامت الدلالة على صحة هذه المقدمات الثلاثة فقد حصل المطلوب التام ، والله أعلم . قوله : ( فإذا هي ) أي العصا وهي مؤنثة ، والثعبان الحية الضخمة الذكر في قول جميع أهل اللغة . فأما مقدارها فغير مذكور في القرآن ، ونقل عن المفسرين في صفتها أشياء ، فعن : إنها ملأت ثمانين ذراعا ، ثم شدت على فرعون لتبتلعه فوثب فرعون عن سريره هاربا وأحدث ، وانهزم الناس ومات منهم خمسة وعشرون ألفا . وقيل : كان بين لحييها أربعون ذراعا ، ووضع لحيها الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر ، وصاح فرعون : يا ابن عباس موسى خذها ، فأنا أؤمن بك ، فلما أخذها موسى عادت عصا كما كانت . وفي وجوه : وصف ذلك الثعبان بكونه مبينا
الأول : تمييز ذلك عما جاءت به السحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه ، وبذلك تتميز معجزات الأنبياء من الحيل والتمويهات .
والثاني : المراد أنهم شاهدوا كونه حية لم يشتبه الأمر عليهم فيه .
الثالث : المراد أن ذلك الثعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي الكاذب .