ثم قال : ( فإذا هي تلقف ما يأفكون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه حذف وإضمار ، والتقدير : فألقاها فإذا هي تلقف .
المسألة الثانية : قرأ حفص عن عاصم ( تلقف ) ساكنة اللام خفيفة القاف ، والباقون بتشديد القاف مفتوحة اللام . وروي عن ابن كثير " تلقف " بتشديد القاف ، وعلى هذا الخلاف في طه والشعراء . أما من خفف فقال : اللقف مصدر لقفت الشيء ألقفه لقفا ، إذا أخذته فأكلته أو ابتلعته ، ورجل لقف سريع الأخذ ، وقال ابن السكيت اللحياني : ومثله ثقف يثقف ثقفا وثقيف كلقيف بين الثقافة واللقافة ، وأما القراءة بالتشديد فهو من تلقف يتلقف ، وأما قراءة ابن كثير فأصلها تتلقف ، أدغم إحدى التاءين في الأخرى .
[ ص: 167 ] المسألة الثالثة : قال المفسرون : موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ، ثم فتحت فكها ، فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعا وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، فلما أخذها لما ألقى موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلا . واعلم أن هذا مما يدل على وجود الإله القادر المختار ، وعلى المعجز العظيم لموسى عليه السلام ، وذلك لأن ذلك الثعبان العظيم لما ابتلعت تلك الحبال والعصي مع كثرتها ثم صارت عصا كما كانت ، فهذا يدل على أنه تعالى أعدم أجسام تلك الحبال والعصي ، أو على أنه تعالى فرق بين تلك الأجزاء وجعلها ذرات غير محسوسة ، وأذهبها في الهواء بحيث لا يحس بذهابها وتفرقها ؛ وعلى كلا التقديرين فلا يقدر على هذه الحالة أحد إلا الله سبحانه وتعالى .
المسألة الرابعة : قوله : ( ما يأفكون ) فيه وجهان :
الأول : قلب الشيء عن وجهه ، ومنه قيل للكذب إفك ؛ لأنه مقلوب عن وجهه . قال معنى الإفك في اللغة رضي الله عنهما : ( ابن عباس ما يأفكون ) يريد يكذبون ، والمعنى : أن العصا تلقف ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه ، وعلى هذا التقدير فلفظة " ما " موصولة .
والثاني : أن يكون " ما " مصدرية ، والتقدير : فإذا هي تلقف إفكهم ، تسمية للمأفوك بالإفك .
ثم قال تعالى : ( فوقع الحق ) قال مجاهد والحسن : ظهر . وقال الفراء : فتبين الحق من السحر . قال أهل المعاني : الوقوع : ظهور الشيء بوجوده نازلا إلى مستقره ، وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا : لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد ، فلما فقدت ثبت أن ذلك إنما حصل بخلق الله سبحانه وتعالى وتقديره ، لا لأجل السحر ، فهذا هو الذي لأجله تميز المعجز عن السحر . قال القاضي : قوله : ( فوقع الحق ) يفيد قوة الثبوت والظهور بحيث لا يصح فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعا .
فإن قيل : قوله : ( فوقع الحق ) يدل على قوة هذا الظهور ، فكان قوله : ( وبطل ما كانوا يعملون ) تكريرا من غير فائدة !
قلنا : المراد أن مع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي ، فعند ذلك ظهرت الغلبة ؛ فلهذا قال تعالى : ( فغلبوا هنالك ) لأنه لا غلبة أظهر من ذلك ( وانقلبوا صاغرين ) لأنه لا ذل ولا صغار أعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله وحجته على وجه لا يمكن فيه حيلة ولا شبهة أصلا . قال الواحدي : لفظة " ما " في قوله : ( وبطل ما كانوا يعملون ) يجوز أن تكون بمعنى " الذي " ، فيكون المعنى : بطل الحبال والعصي الذي عملوا به السحر ، أي زال وذهب بفقدانها ، ويجوز أن تكون بمعنى المصدر ، كأنه قيل : بطل عملهم ، والله أعلم .