( وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) .
قوله تعالى : ( وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) .
[ ص: 177 ] اعلم أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله تعالى وقدره ، فحكى عنهم في هذه الآية نوعا آخر من أنواع الجهالة والضلالة ، وهو أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السحر ، وجعلوا جملة الآيات مثل انقلاب العصا حية من باب السحر منهم ، وقالوا لموسى : إنا لا نقبل شيئا منها البتة . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : : في كلمة " مهما " قولان
الأول : أن أصلها " ما ما " الأولى هي " ما " الجزاء ، والثانية هي التي تزاد توكيدا للجزاء ، كما تزاد في سائر حروف الجزاء ، كقولهم : إما ومما وكيفما ، قال الله تعالى : ( فإما تثقفنهم ) [ الأنفال : 57 ] وهو كقولك : إن تثقفنهم ، ثم أبدلوا من ألف " ما " الأولى " ها " كراهة لتكرار اللفظ ، فصار " مهما " هذا قول الخليل والبصريين .
والثاني - وهو قول الكسائي - : الأصل " مه " التي بمعنى الكف ، أي " اكفف " دخلت على " ما " التي للجزاء ، كأنهم قالوا : اكفف ما تأتنا به من آية فهو كذا وكذا .
المسألة الثانية : قال : إن القوم لما قالوا ابن عباس لموسى : مهما أتيتنا بآية من ربك ، فهي عندنا من باب السحر ، ونحن لا نؤمن بها البتة ، وكان موسى عليه السلام رجلا حديدا ، فعند ذلك دعا عليهم ، فاستجاب الله له ، فأرسل عليهم الطوفان الدائم ليلا ونهارا سبتا إلى سبت ، حتى كان الرجل منهم لا يرى شمسا ولا قمرا ولا يستطيع الخروج من داره وجاءهم الغرق ، فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به ، فأرسل إلى موسى عليه السلام وقال : اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحرا واحدا ، فإن كشفت هذا العذاب آمنا بك ، فأزال الله عنهم المطر ، وأرسل الرياح فجففت الأرض ، وخرج من النبات ما لم يروا مثله قط . فقالوا : هذا الذي جزعنا منه خير لنا ، لكنا لم نشعر ، فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد ، فأرسل الله عليهم الجراد ، فأكل النبات وعظم الأمر عليهم حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس ، ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعا ، فأكلت النبات ، فصرخ أهل مصر ، فدعا موسى عليه السلام ، فأرسل الله تعالى ريحا فاحتملت الجراد ، فألقته في البحر ، فنظر أهل مصر إلى أن بقية من كلئهم وزرعهم تكفيهم . فقالوا : هذا الذي بقي يكفينا ولا نؤمن بك . فأرسل الله بعد ذلك عليهم القمل ، سبتا إلى سبت ، فلم يبق في أرضهم عودا أخضر إلا أكلته ، فصاحوا وسأل موسى عليه السلام ربه ، فأرسل الله عليها ريحا حارة فأحرقتها ، واحتملتها الريح فألقتها في البحر ، فلم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم الضفادع بعد ذلك ، فخرج من البحر مثل الليل الدامس ، ووقع في الثياب والأطعمة ، فكان الرجل منهم يسقط وعلى رأسه ذراع من الضفادع ، فصرخوا إلى موسى عليه السلام ، وحلفوا بإلهه لئن رفعت عنا هذا العذاب لنؤمنن بك ، فدعا الله تعالى فأمات الضفادع ، وأرسل عليها المطر فحملتها إلى البحر ، ثم أظهروا الكفر والفساد ، فأرسل الله عليهم الدم فجرت أنهارهم دما ، فلم يقدروا على الماء العذب ، وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيب حتى بلغ منهم الجهد ، فصرخوا وركب فرعون وأشراف قومه إلى أنهار بني إسرائيل ، فجعل يدخل الرجل منهم النهر ، فإذا اغترف صار في يده دما ، ومكثوا سبعة أيام في ذل لا يشربون إلا الدم . فقال فرعون : ( لئن كشفت عنا الرجز ) إلى آخر الآية . فهذا هو القول المرضي عند أكثر المفسرين ، وقد وقع في أكثرها اختلافات . أما الطوفان فقال الزجاج : الطوفان من كل شيء ما كان كثيرا محيطا مطبقا بالقوم كلهم ، كالغرق الذي يشمل المدن الكثيرة ، فإنه يقال له : طوفان ، وكذلك القتل الذريع طوفان ، والموت الجارف طوفان . وقال الأخفش : هو فعلان من [ ص: 178 ] الطوف ؛ لأنه يطوف بالشيء حتى يعم ، قال : وواحده في القياس طوفانة . وقال : الطوفان مصدر مثل " الرجحان والنقصان " فلا حاجة إلى أن يطلب له واحدا . المبرد
إذا عرفت هذا فنقول : الأكثرون على أن هذا الطوفان هو المطر الكثير على ما رويناه عن ، وقد روى ابن عباس عطاء عنه أنه قال : الطوفان هو الموت ، وروى الواحدي رحمه الله بإسناده خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الطوفان هو الموت " . وهذا القول مشكل ؛ لأنهم لو أميتوا لم يكن لإرسال سائر أنواع العذاب عليهم فائدة ، بل لو صح هذا الخبر لوجب حمل لفظ الموت على حصول أسباب الموت ، مثل المطر الشديد والسيل العظيم وغيرهما ، وأما الجراد ، فهو معروف والواحدة جرادة ، ونبت مجرود قد أكل الجراد ورقه . وقال اللحياني : أرض جردة ومجرودة قد لحسها الجراد ، وإذا أصاب الجراد الزرع قيل : جرد الزرع ، وأصل هذا كله من الجرد ، وهو أخذك الشيء عن الشيء على سبيل النحت والسحق ، ومنه يقال للثوب الذي قد ذهب وبره : جرد ، وأرض جردة لا نبات فيها ، وأما القمل فقد اختلفوا فيه ، فقيل : هو الدبى الصغار الذي لا أجنحة له ، وهي بنات الجراد ، وعن كان إلى جنبهم كثيب أعفر ، فضربه سعيد بن جبير موسى عليه السلام بعصاه ، فصار قملا ، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ، ولزم جلودهم كأنه الجدري ، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم ، فقالوا : قد تيقنا الآن أنك ساحر عليم ، وعزة فرعون لا نؤمن بك أبدا . وقرأ الحسن " والقمل " بفتح القاف وسكون الميم ، يريد القمل المعروف . وأما الدم فما ذكرناه . ونقل صاحب " الكشاف " أنه قيل : سلط الله عليهم الرعاف . وروي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات .
وأما قوله تعالى : ( آيات مفصلات ) ففيه وجوه :
أحدها : ( مفصلات ) أي مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره .
وثانيها : ( مفصلات ) أي فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيقبلون الحجة والدليل ، أو يستمرون على الخلاف والتقليد . قال المفسرون : كان العذاب يبقى عليهم من السبت إلى السبت وبين العذاب إلى العذاب شهر ، فهذا معنى قوله : ( آيات مفصلات ) قال الزجاج : وقوله : ( آيات ) منصوبة على الحال .
وقوله : ( فاستكبروا ) يريد عن عبادة الله ( وكانوا قوما مجرمين ) مصرين على الجرم والذنب . ونقل أيضا أن هذه الأنواع المذكورة من العذاب كانت عند وقوعها مختصة بقوم فرعون ، وكان بنو إسرائيل منها في أمان وفراغ . ولا شك أن كل واحد منها فهو في نفسه معجز ، واختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز آخر .
فإن قال قائل : لما علم الله تعالى من حال أولئك الأقوام أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات ، فما الفائدة في تواليها وإظهار الكثير منها ؟ وأيضا فقوم محمد صلى الله عليه وسلم طلبوا المعجزات فما أجيبوا ، فما الفرق ؟ .
والجواب : أما على قول أصحابنا فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، وأما على قول المعتزلة في رعاية الصلاح ، فلعله علم من قوم موسى أن بعضهم كان يؤمن عند ظهور تلك المعجزات الزائدة ، وعلم من قوم محمد صلى الله عليه وسلم أن أحدا منهم لا يزداد بعد ظهور تلك المعجزات الظاهرة إلا كفرا وعنادا ، فظهر الفرق ، والله أعلم .