ثم قال تعالى : ( يخرج من بطونها ) وفيه بحثان :
البحث الأول : أن هذا رجوع من الخطاب إلى الغيبة ، والسبب فيه أن المقصود من ذكر هذه الأحوال أن يحتج الإنسان المكلف به على ، فكأنه تعالى لما خاطب النحل بما سبق ذكره خاطب الإنسان وقال : إنا ألهمنا هذا النحل لهذه العجائب ، لأجل أن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه . قدرة الله تعالى وحكمته وحسن تدبيره لأحوال العالم العلوي والسفلي
البحث الثاني : أنه قد ذكرنا أن من الناس من يقول : العسل عبارة عن أجزاء طلية تحدث في الهواء وتقع [ ص: 59 ] على أطراف الأشجار وعلى الأوراق والأزهار ، فيلقطها الزنبور بفمه ، فإذا ذهبنا إلى هذا الوجه كان المراد من قوله : ( يخرج من بطونها ) أي : من أفواهها ، وكل تجويف في داخل البدن فإنه يسمى بطنا ، ألا ترى أنهم يقولون : بطون الدماغ ، وعنوا أنها تجاويف الدماغ ، وكذا ههنا يخرج من بطونها أي : من أفواهها ، وأما على قول أهل الظاهر ، وهو أن النحلة تأكل الأوراق والثمرات ثم تقيء فذلك هو العسل فالكلام ظاهر .
ثم قال تعالى : ( شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ) اعلم أنه تعالى وصف العسل بهذه الصفات الثلاثة :
فالصفة الأولى : كونه شرابا والأمر كذلك ، لأنه تارة يشرب وحده وتارة يتخذ من الأشربة .
والصفة الثانية : قوله : ( مختلف ألوانه ) والمعنى : أن منه أحمر وأبيض وأصفر . ونظيره قوله تعالى : ( ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ) [ فاطر : 27 ] والمقصود منه : إبطال القول بالطبع ، لأن هذا الجسم مع كونه متساوي الطبيعة لما حدث على ألوان مختلفة ، دل ذلك على أن حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار ، لا لأجل إيجاد الطبيعة .
والصفة الثالثة : قوله : ( فيه شفاء للناس ) وفيه قولان :
القول الأول : وهو الصحيح أنه صفة للعسل .
فإن قالوا : كيف يكون شفاء للناس وهو يضر بالصفراء ويهيج المرارة ؟ .
قلنا : إنه تعالى لم يقل إنه شفاء لكل الناس ولكل داء وفي كل حال ، بل لما كان شفاء للبعض من بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاء ، والذي يدل على أنه شفاء في الجملة أنه قل معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل ، وأيضا فالأشربة المتخذة منه في الأمراض البلغمية عظيمة النفع .
والقول الثاني : وهو قول أن المراد : أن مجاهد ، وعلى هذا التقدير فقصة تولد العسل من النحل تمت عند قوله : ( القرآن شفاء للناس يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه ) ثم ابتدأ وقال : ( فيه شفاء للناس ) أي : في هذا القرآن حصل ما هو شفاء للناس من الكفر والبدعة ، مثل هذا الذي في قصة النحل . وعن ابن مسعود : أن ، والقرآن شفاء لما في الصدور . العسل شفاء من كل داء
واعلم أن هذا القول ضعيف ويدل عليه وجهان :
الأول : أن الضمير في قوله : ( فيه شفاء للناس ) يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وما ذاك إلا قوله : ( شراب مختلف ألوانه ) وأما الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق ، فهو غير مناسب .
والثاني : ما روى أبو سعيد الخدري : " وحملوا قوله : " أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن أخي يشتكي بطنه فقال : " اسقه عسلا " فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فلم يغن عنه شيئا ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اذهب واسقه عسلا " فذهب فسقاه ، فكأنما نشط من عقال ، فقال : " صدق الله وكذب بطن أخيك " على قوله : ( صدق الله وكذب بطن أخيك فيه شفاء للناس ) وذلك إنما يصح لو كان هذا صفة للعسل .
فإن قال قائل : ما المراد بقوله عليه السلام : " " ؟ . صدق الله وكذب بطن أخيك
[ ص: 60 ] قلنا : لعله عليه السلام علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك ، فلما لم يظهر نفعه في الحال ، مع أنه عليه السلام كان عالما بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك ، كان هذا جاريا مجرى الكذب ، فلهذا السبب أطلق عليه هذا اللفظ .
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : ( إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه :
الأول : اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة ; مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها .
والثاني : اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق .
والثالث : خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء ، ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق ، ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها ، وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة ، والله أعلم .