المسألة الرابعة : قوله تعالى : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف ) فيه بحثان :
البحث الأول : أن هذه الآية تدل على أنه أثبت ، فأما بيان أن هذه السلطنة تحصل في ماذا فليس في قوله : ( لولي الدم سلطانا فقد جعلنا لوليه سلطانا ) دلالة عليه ثم ههنا طريقان :
الأول : أنه تعالى لما قال بعده : ( فلا يسرف في القتل ) عرف أن تلك السلطنة إنما حصلت في استيفاء القتل ، وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) فلا ينبغي أن يسرف الظالم في ذلك القتل ، لأن ذلك المقتول منصور بواسطة إثبات هذه السلطنة لوليه .
والثاني : أن تلك السلطنة مجملة ثم صارت مفسرة بالآية والخبر ، أما الآية فقوله تعالى في سورة البقرة : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) [ البقرة : 178 ] إلى قوله : ( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ) [ البقرة : 178 ] وقد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن الواجب هو كون المكلف مخيرا بين القصاص وبين الدية . وأما الخبر فهو قوله عليه السلام يوم الفتح : " " وعلى هذا الطريق فقوله : ( من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية فلا يسرف في القتل ) معناه : أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص إن شاء ، [ ص: 162 ] وسلطنة استيفاء الدية إن شاء . قال بعده : ( فلا يسرف في القتل ) معناه أن الأولى أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو ، وبالجملة فلفظة " في " محمولة على الباء ، والمعنى : فلا يصير مسرفا بسبب إقدامه على القتل ويصير معناه الترغيب في العفو والاكتفاء بالدية كما قال : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [ البقرة : 237 ] .
البحث الثاني : أن في قوله : ( ومن قتل مظلوما ) ذكر كونه مظلوما بصيغة التنكير ، وصيغة التنكير على ما عرف تدل على الكمال ، فالإنسان المقتول ما لم يكن كاملا في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص . قال رحمه الله : قد دللنا على أن الشافعي لم يدخل تحت هذه الآية ، بدليل أن الذمي مشرك والمشرك يحل دمه ، إنما قلنا : إنه مشرك لقوله تعالى : ( المسلم إذا قتل الذمي إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] حكم بأن ما سوى الشرك مغفور في حق البعض ، فلو كان كفر اليهودي والنصراني شيئا مغايرا للشرك لوجب أن يصير مغفورا في حق بعض الناس بمقتضى هذه الآية ، فلما لم يصر مغفورا في حق أحد دل على أن كفرهم شرك ، ولأنه تعالى قال : ( لق د كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) [ البقرة : 73 ] فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء إما أن يكون تثليثا في الصفات وهو باطل ، لأن ذلك هو الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة فلا يمكن جعله تثليثا للكفر ، وإما أن يكون تثليثا في الذوات ، وذلك هو الحق ولا شك أن القائل به مشرك ، فثبت أن الذمي مشرك ، وإنما قلنا : إن المشرك يجب قتله لقوله تعالى : ( وقاتلوا المشركين ) ومقتضى هذا الدليل إباحة دم الذمي فإن لم تثبت الإباحة فلا أقل من حصول شبهة الإباحة .
وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت أنه ليس كاملا في المظلومية فلم يندرج تحت قوله تعالى : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) وأما الحر إذا قتل عبدا فهو داخل تحت هذه الآية إلا أنا بينا أن قوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد ) [ البقرة : 178 ] يدل على المنع من من وجوه كثيرة ، وتلك الآية أخص من قوله : ( قتل الحر بالعبد ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) والخاص مقدم على العام ، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص ولا في مسألة أنه يجب قتل المسلم بالذمي ، ولا في مسألة أنه يجب قتل الحر بالعبد ، والله أعلم .
أما قوله تعالى : ( فلا يسرف في القتل ) ففيه مباحث :
البحث الأول : فيه وجوه :
الأول : المراد هو أن يقتل القاتل وغير القاتل ، وذلك لأن الواحد منهم إذا قتل واحدا من قبيلة شريفة فأولياء ذلك المقتول كانوا يقتلون خلقا من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وأمر بالاقتصار على . قتل القاتل وحده
الثاني : هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف قبيلة القاتل ثم كانوا يقتلون منهم قوما معينين ويتركون القاتل .
والثالث : هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يمثل به ويقطع أعضاءه . قال القفال : ولا يبعد حمله على الكل ، لأن جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافا .
البحث الثاني : قرأ الأكثرون : " فلا يسرف " بالياء وفيه وجهان :
الأول : التقدير : فلا ينبغي أن يسرف الولي في القتل .
الثاني : أن الضمير للقاتل الظالم ابتداء ، أي : فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم , وإسرافه عبارة [ ص: 163 ] عن إقدامه على ذلك القتل الظلم ، وقرأ حمزة والكسائي : " فلا تسرف " بالتاء على الخطاب ، وهذه القراءة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الخطاب للمبتدئ القاتل ظلما كأنه قيل له : لا تسرف أيها الإنسان ، وذلك الإسراف هو إقدامه على ذلك القتل الذي هو ظلم محض ، والمعنى : لا تفعل فإنك إن قتلته مظلوما استوفى القصاص منك .
والآخر : أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير : لا تسرف في القتل أيها الولي ، أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة .
وأما قوله : ( إنه كان منصورا ) ففيه ثلاثة أوجه :
الأول : كأنه قيل للظالم المبتدئ بذلك القتل على سبيل الظلم لا تفعل ذلك ، فإن ذلك المقتول يكون منصورا في الدنيا والآخرة ، أما نصرته في الدنيا فبقتل قاتله ، وأما في الآخرة فبكثرة الثواب له وكثرة العقاب لقاتله .
والقول الثاني : أن هذا الولي يكون منصورا في قتل ذلك القاتل الظالم فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصورا فيه ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منه ، لأن من يكون منصورا من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة .
والقول الثالث : أن هذا القاتل الظالم ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص وأن لا يطلب الزيادة .
واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند الله تعالى وعن - رضي الله عنهما - أنه قال : قلت ابن عباس عليه السلام وايم الله ليظهرن عليكم لعلي بن أبي طالب ابن أبي سفيان ، لأن الله تعالى يقول : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) وقال الحسن : والله ما نصر معاوية على علي عليه السلام إلا بقول الله تعالى : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) والله أعلم .