واعلم أن الفقهاء قد استنبطوا أحكام المياه من قوله تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) ونحن نشير إلى معاقد تلك المسائل فنقول : ههنا نظران :
أحدهما : أن الماء مطهر .
والثاني : أن غير الماء هل هو مطهر أم لا ؟
النظر الأول : أن نقول : الماء إما أن لا يتغير أو يتغير . القسم الأول وهو الذي لا يتغير فهو طاهر في ذاته مطهر لغيره إلا فإنه عند الماء المستعمل طاهر وليس بمطهر ، وقال الشافعي مالك : يجوز الوضوء به ، وقال والثوري في رواية أبو حنيفة أبي يوسف : إنه نجس . فههنا مسائل :
المسألة الأولى : في بيان أنه ليس بمطهر ، ودليلنا قوله عليه السلام : ، ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا لما كان للمنع منه معنى ، ومن وجه القياس أن الصحابة كانوا يتوضئون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه ، مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء ، ولو كان ذلك الماء مطهرا لحملوه ليوم الحاجة ، واحتج لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب مالك بالآية والخبر والقياس . أما الآية فمن وجهين :
الأول : قوله تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) ، وقوله : ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) [ الأنفال : 11] فدلت الآية على حصول وصف المطهرية للماء ، والأصل في الثابت بقاؤه ، فوجب الحكم ببقاء هذه الصفة للماء بعد صيرورته مستعملا ، وأيضا قوله : ( طهورا ) يقتضي جواز التطهر به مرة بعد أخرى .
والثاني : أنه أمر بالغسل مطلقا في قوله : ( فاغسلوا ) [المائدة : 6] واستعمال كل المائعات غسل ؛ لأنه لا معنى للغسل إلا إمرار الماء على العضو ، قال الشاعر :
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
فمن فقد أتى بالغسل ، فوجب أن يكون مجزئا له ؛ لأنه أتى بما أمر به ، فوجب أن يخرج عن العهدة ، وأما السنة فما روي أنه عليه السلام اغتسل بالماء المستعمل ، وعنه عليه السلام : توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده أنه توضأ فأخذ من بلل لحيته فمسح به رأسه ، وعن أنه عليه السلام : ابن عباس . وأما القياس فإنه ماء طاهر لقي [ ص: 81 ] جسدا طاهرا ، فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديدا ، وكذا الماء المستعمل في الكرة الرابعة والمستعمل في التبرد والتنظيف ، ولأنه لا خلاف أنه إذا وضع الماء على أعلى وجهه وسقط به فرض ذلك الموضع ثم نزل ذلك الماء بعينه إلى بقية الوجه فإنه يجزيه ، مع أن ذلك الماء صار مستعملا في أعلى الوجه . اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء ، فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة