( بل عجبت ويسخرون ) .
ثم قال تعالى : ( بل عجبت ويسخرون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقرير الكلام أن يقال إن هؤلاء المنكرين أقروا بأنه تعالى قادر على تكوين أشياء أصعب من إعادة الحياة إلى هذه الأجساد ، وقد تقرر في صرائح العقول أن القادر على الأشق الأشد يكون قادرا على الأسهل الأيسر ، ثم مع قيام هذه الحجة البديهية بقي هؤلاء الأقوام مصرين على وهذا في موضع التعجب الشديد فإن مع ظهور هذه الحجة الجلية الظاهرة كيف يعقل بقاء القوم على الإصرار فيه ، فأنت يا إنكار البعث والقيامة محمد تتعجب من إصرارهم على الإنكار وهم في طرف الإنكار وصلوا إلى حيث يسخرون منك في قولك بإثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، فهذا هو المراد من قوله : ( بل عجبت ويسخرون ) .
المسألة الثانية : حمزة والكسائي " عجبت " بضم التاء والباقون بفتحها قال قرأ الواحدي : والضم قراءة ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم ويحيى بن ثابت وقراءة والأعمش أهل الكوفة واختيار أبي عبيدة ، أما الذين قرءوا بالفتح فقد احتجوا بوجوه :
الأول : أن القراءة بالضم تدل على وذلك محال ؛ لأن التعجب حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء ومعلوم أن الجهل على الله محال . إسناد العجب إلى الله تعالى
والثاني : أن الله تعالى أضاف التعجب إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - في آية أخرى في هذه المسألة فقال : ( وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا ) [ الرعد : 5 ] .
والثالث : أنه تعالى قال : ( بل عجبت ويسخرون ) والظاهر أنهم سخروا لأجل [ ص: 111 ] ذلك التعجب فلما سخروا منه وجب أن يكون ذلك التعجب صادرا منه ، وأما الذين قرءوا بضم التاء ، فقد أجابوا عن الحجة الأولى من وجوه :
الأول : أن القراءة بالضم لا نسلم أنها تدل على إسناد التعجب إلى الله تعالى ، وبيانه أنه يكون التقدير قل يا محمد ( بل عجبت ويسخرون ) ونظيره قوله تعالى : ( أسمع بهم وأبصر ) [ مريم : 38 ] معناه أن هؤلاء ما تقولون فيه أنتم هذا النحو من الكلام ، وكذلك قوله تعالى : ( فما أصبرهم على النار ) [ البقرة : 175 ] .
الثاني : سلمنا أن ذلك يقتضي إضافة التعجب إلى الله تعالى فلم قلتم إن ذلك محال ؟ ويروى أن شريحا كان يختار القراءة بالنصب ويقول : العجب لا يليق إلا بمن لا يعلم ، قال : فذكرت ذلك الأعمش لإبراهيم فقال : إن شريحا يعجب بعلمه ، وكان عبد الله أعلم ، وكان يقرأ بالضم ، وتحقيق القول فيه أن نقول : دل القرآن والخبر على جواز إضافة العجب إلى الله تعالى ، أما القرآن فقوله تعالى : ( وإن تعجب فعجب قولهم ) [ الرعد : 5 ] والمعنى : وإن تعجب يا محمد من قولهم فهو أيضا عجب عندي ، وأجيب عنه أنه لا يمتنع أن يكون المراد وإن تعجب فعجب قولهم عندكم ، وأما الخبر فقوله - صلى الله عليه وسلم - : . وإذا ثبت هذا فنقول : العجب من الله تعالى خلاف العجب من الآدميين كما قال : ( عجب ربكم من إلكم وقنوطكم ، وعجب ربكم من شاب ليست له صبوة ويمكرون ويمكر الله ) [ الأنفال : 30 ] وقال : ( سخر الله منهم ) [ التوبة : 79 ] وقال تعالى : ( وهو خادعهم ) [ النساء : 142 ] والمكر والخداع والسخرية من الله تعالى بخلاف هذه الأحوال من العباد ، وقد ذكرنا أن القانون في هذا الباب أن هذه الألفاظ محمولة على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض .
وكذلك ههنا من تعجب من شيء فإنه يستعظمه فالتعجب في حق الله تعالى محمول على أنه تعالى يستعظم تلك الحالة ، إن كانت قبيحة فيترتب العقاب العظيم عليه ، وإن كانت حسنة فيترتب الثواب العظيم عليه ، فهذا تمام الكلام في هذه المناظرة ، والأقرب أن يقال القراءة بالضم إن ثبت بالتواتر وجب المصير إليها ويكون التأويل ما ذكرناه وإن لم تثبت هذه القراءة بالتواتر ، كانت القراءة بفتح التاء أولى والله أعلم .