الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : في قوله : ( واستغفره ) وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : لعله عليه السلام كان يتمنى أن ينتقم ممن آذاه ، ويسأل الله أن ينصره ، فلما سمع : ( إذا جاء نصر الله ) استبشر ، لكن لو قرن بهذه البشارة شرط أن لا ينتقم لتنغصت عليه تلك البشارة ، فذكر لفظ الناس وأنهم يدخلون في دين الله وأمره بأن يستغفر للداخلين ، لكن من المعلوم أن الاستغفار لمن لا ذنب له لا يحسن فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الطريق أنه تعالى ندبه إلى العفو وترك الانتقام ؛ لأنه لما أمره بأن يطلب لهم المغفرة ، فكيف يحسن منه أن يشتغل بالانتقام منهم ؟ ثم ختم بلفظ التواب كأنه يقول : إن قبول التوبة حرفته فكل من طلب منه التوبة أعطاه كما أن البياع حرفته بيع الأمتعة التي عنده فكل من طلب منه شيئا من تلك الأمتعة باعه منه ، سواء كان المشتري عدوا أو وليا ، فكذا الرب سبحانه يقبل التوبة سواء كان التائب مكيا أو مدنيا ، ثم إنه عليه السلام امتثل أمر الرب تعالى فحين قالوا له : أخ كريم وابن أخ كريم قال لهم : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ) [ يوسف : 92 ] أي أمرني أن أستغفر لكم فلا يجوز أن يردني .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن قوله : ( واستغفره ) إما أن يكون المراد واستغفر الله لنفسك أو لأمتك ، فإن كان المراد هو الأول فهو يتفرع على أنه هل صدرت عنه معصية أم لا ؟ فمن قال : صدرت المعصية عنه ذكر في فائدة الاستغفار وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه لا يمتنع أن تكون كثرة الاستغفار منه تؤثر في جعل ذنبه صغيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : لزمه الاستغفار لينجو عن ذنب الإصرار

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : لزم الاستغفار ليصير الاستغفار جابرا للذنب الصغير فلا ينتقض من ثوابه شيء أصلا ، وأما من قال : ما صدرت المعصية عنه فذكر في هذا الاستغفار وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن استغفار النبي جار مجرى التسبيح وذلك لأنه وصف الله بأنه غفار .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : تعبده الله بذلك ليقتدي به غيره إذ لا يأمن كل مكلف عن تقصير يقع منه في عبادته ، وفيه تنبيه على أنه مع شدة اجتهاده وعصمته ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف من دونه ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الاستغفار كان عن ترك الأفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن الاستغفار كان بسبب أن كل طاعة أتى بها العبد فإذا قابلها بإحسان الرب وجدها قاصرة عن الوفاء بأداء شكر تلك النعمة ، فليستغفر الله لأجل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : الاستغفار بسبب التقصير الواقع في السلوك ؛ لأن السائر إلى الله إذا وصل إلى مقام في العبودية ، ثم تجاوز عنه فبعد تجاوزه عنه يرى ذلك المقام قاصرا فيستغفر الله عنه ، ولما كانت مراتب السير إلى الله غير متناهية لا جرم كانت مراتب هذا الاستغفار غير متناهية .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد واستغفره لذنب أمتك فهو أيضا ظاهر ؛ لأنه تعالى أمره بالاستغفار لذنب أمته في قوله : ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) [ محمد : 19 ] فههنا لما كثرت الأمة صار ذلك الاستغفار أوجب وأهم ، وهكذا إذا قلنا : المراد ههنا أن يستغفر لنفسه ولأمته .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية