النوع الرابع من الدلائل : قوله تعالى : ( والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ) [ البقرة : 164 ] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : الفلك أصله من الدوران وكل مستدير فلك ، وفلك السماء اسم لأطواق سبعة تجري فيها النجوم ، وفلكت الجارية إذا استدار ثديها ، وفلكة المغزل من هذا ، والسفينة سميت فلكا ؛ لأنها تدور بالماء أسهل دوران . قال : والفلك واحد وجمع ، فإذا أراد بها الواحد ذكر ، وإذا أريد به الجمع أنث ، ومثاله قولهم : ناقة هجان ونوق هجان ، ودرع دلاص ودروع دلاص ، قال : الفلك إذا أريد به الواحد فضمة الفاء فيه بمنزلة ضمة باء برد وخاء خرج ، وإذا أريد به الجمع فضمة الفاء فيه بمنزلة الحاء من حمر والصاد من صفر ، فالضمتان وإن اتفقتا في اللفظ فهما مختلفتان في المعنى . سيبويه
المسألة الثانية : قال الليث : سمي البحر بحرا لاستبحاره ، وهو سعته وانبساطه ويقال : استبحر فلان في العلم إذا اتسع فيه ، وتبحر فلان في المال ، وقال غيره : سمي البحر بحرا ؛ لأنه شق في الأرض ، والبحر الشق ومنه البحيرة .
المسألة الثالثة : ذكر الجبائي وغيره من العلماء بمواضع البحور أن البحور المعروفة خمسة :
أحدها : بحر الهند ، وهو الذي يقال له أيضا : بحر الصين .
والثاني : بحر المغرب .
والثالث : بحر الشام والروم ومصر .
والرابع : بحر نيطش .
والخامس : بحر جرجان .
فأما بحر الهند فإنه يمتد طوله من المغرب إلى المشرق ، من أقصى أرض الحبشة إلى أقصى [ ص: 177 ] أرض الهند والصين ، يكون مقدار ذلك ثمانمائة ألف ميل ، وعرضه ألفان وسبعمائة ميل ، ويجاوز خط الاستواء ألفا وسبعمائة ميل ، وخلجان هذا البحر :
الأول : خليج عند أرض الحبشة ، ويمتد إلى ناحية البربر ، ويسمى الخليج البربري ، طوله مقدار خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل .
والثاني : خليج بحر أيلة وهو بحر القلزم ، طوله ألف وأربعمائة ميل ، وعرضه سبعمائة ميل ، ومنتهاه إلى البحر الذي يسمى البحر الأخضر ، وعلى طرفه القلزم ، فلذلك سمي به ، وعلى شرقيه أرض اليمن وعدن ، وعلى غربيه أرض الحبشة .
الثالث : خليج بحر أرض فارس ، ويسمى الخليج الفارسي ، وهو بحر البصرة وفارس ، الذي على شرقيه تيز ومكران ، وعلى غربيه عمان طوله ألف وأربعمائة ميل ، وعرضه خمسمائة ميل ، وبين هذين الخليجين - أعني خليج أيلة وخليج فارس - أرض الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب ، فيما بين مسافة ألف وخمسمائة ميل .
الرابع : يخرج منه خليج آخر إلى أقصى بلاد الهند ويسمى الخليج الأخضر ، طوله ألف وخمسمائة ميل ، قالوا : وفي جزيرة بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة ألف وثلاثمائة وسبعون جزيرة ، منها جزيرة ضخمة في أقصى البحر مقابل أرض الهند في ناحية المشرق عند بلاد الصين وهي سرنديب ، يحيط بها ثلاثة آلاف ميل فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ، ومنها يخرج الياقوت الأحمر ، وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة ، فيها مدائن عامرة وقرى كثيرة ، ومن جزائر هذا البحر جزيرة كلة التي يجلب منها الرصاص القلعي ، وجزيرة سريرة التي يجلب منها الكافور .
وأما بحر المغرب : فهو الذي يسمى بالمحيط ، وتسميه اليونانيون : أوقيانوس ، ويتصل به بحر الهند ، ولا يعرف طرفه إلا في ناحية المغرب والشمال ، عند محاذاة أرض الروس والصقالبة ، فيأخذ من أقصى المنتهى في الجنوب ، محاذيا لأرض السودان ، مارا على حدود السوس الأقصى وطنجة ، وتاهرت ، ثم الأندلس ، والجلالقة والصقالبة ، ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق ، وهذا البحر لا تجري فيه السفن وإنما تسلك بالقرب من سواحله ، وفيه ست جزائر مقابل أرض الحبشة تسمى : جزائر الخالدات ، ويخرج من هذا البحر خليج عظيم في شمال الصقالبة ، ويمتد هذا الخليج إلى أرض بلغار المسلمين ، طوله من المشرق إلى المغرب ثلاثمائة ميل ، وعرضه مائة ميل .
وأما بحر الروم وإفريقية ومصر والشام : فطوله مقدار خمسة آلاف ميل ، وعرضه ستمائة ميل ، ويخرج منه خليج إلى ناحية الشمال قريب من الرومية ، طوله خمسمائة ميل ، وعرضه ستمائة ، ويخرج منه خليج آخر إلى أرض سرين ، طوله مائتا ميل ، وفي هذا البحر مائة واثنتان وستون جزيرة عامرة ، منها خمسون جزيرة عظام .
وأما بحر نيطش فإنه يمتد من اللاذقية إلى خلف قسطنطينية ، في أرض الروس والصقالبة ، طوله ألف وثلاثمائة ميل ، وعرضه ثلاثمائة ميل .
وأما بحر جرجان فطوله من المغرب إلى المشرق ثلاثمائة ميل ، وعرضه ستمائة ميل ، وفيه جزيرتان كانتا عامرتين فيمن مضى من الزمان ، ويعرف هذا البحر ببحر آبسكون ؛ لأنها على فرضته ، ثم يمتد إلى طبرستان ، والديلم ، والنهروان ، وباب الأبواب ، وناحية أران ، وليس يتصل ببحر آخر ، فهذه هي البحور العظام ، وأما غيرها فبحيرات وبطائح ، كبحيرة خوارزم ، وبحيرة طبرية . [ ص: 178 ]
وحكي عن أرسطاطاليس : أن بحر أوقيانوس محيط بالأرض بمنزلة المنطقة لها ، فهذا هو الكلام المختصر في أمر البحور .