المبحث الثاني
الإمام محمد الخضر حسين شيخا للأزهر
- المطلب الأول: أثر تولي مشيخة الأزهر على الإمام:
كانت مشيخة الأزهر من المنح الإلهية للإمام، رحمه الله، إذ المعهود أن يتولى المشيخة أحد أبناء الأزهر الأصليين، وأحد العلماء المصريين، لكن عندما يتولى المشيخة هذا الإمام، الذي كان مولده بتونس، فهذا من تدبير الله تعالى له، ومن توافق الأسباب لرفعته وإعلاء شأنه، وإبراز مكانته للعالم الإسلامي بأسره.
"في مستهل عهد ثورة 1952م رأت أن يتولى قيادة الأزهر مناضل عربي من زعماء علماء المسلمين ومن قادتهم في مناضلة الاستعمار في أقطار العالم العربي، فانعقد الإجماع على اختيار الشيخ الإمام السيد محمد الخضر حسين، وفي يوم الثلاثاء 26 من ذي الحجة سنة 1371 هـ (16 من سبتمبر سنة 1952م) خرج من مجلس الوزراء أثناء انعقاده ثلاثة من الوزراء توجهوا إلى البيت الذي يسكن فيه الشيخ بشارع خيرت وعرضوا عليه باسم الثورة مشيخة الجامع الأزهر" [1] . [ ص: 73 ]
وقد توجت رحلة جهاده بتوليه مشيخة الأزهر.
والإمام لم يطلب مشيخة الأزهر، وإنما طلب، ولم يكن في ذهنه ولا في تصوره هذا المنصب، ولكن الله تعالى غالب على أمره، وسعت إليه الحكومة لتعرض عليه هـذا المنصب المهـم، وعندما يعرض المنصب على العـالم ولا يسعى إليه بنفسه، فهذا دليل عزة ووقار، وأمارة رفعة وفخار، فالمناصب لها أعباؤها الجسام، ومقتضياتها الهائلة والذي يخلص منها بالحق، ويسخرها لخدمة المسلمين، فإن حال هؤلاء كاللبن الذي يخلص من بين فرث ودم، وهذا الخلوص بقدرة الله تعالى؛ وخلوص بالمنصب من هذا كله يحتاج إلى إعانة كبيرة من الله تعالى، ورغبة صادقة وإرادة حازمة في السعي بالمنصب لخدمة الإسلام. فكان العرض من الحكومة على الإمام دلالة عـلى الوعي بما لديه من إمكانات، وما عنده من صلاحيات تتفق مع طبيعة المرحلة التي تمر بها الدولة في هذا الوقت.
ففي هذه المرحلة التاريخية، التي لها ظروفها الخاصة كان تولي الإمام مشيخة الأزهر منحة من الله تعالى، وتدبيرا لأمره، وإظهارا لقدره، وتجلية لحكمة الله تعالى في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وإن كان من غير أبناء مصر، إلا أن توليته لكفاءته وقدرته وأهليته، فيكون تقديمه على غيره هو تنفيذا للأمانة المطلوبة، وتأدية للرسالة الصحيحة.
يقول الإمام: "ولارتباط سعادة الأمة باستقامة القضاء جاز للرئيس الأعلى متى رأى في أهل العلم من هو أدرى بمسالكه وأقدر على القيام بأعبائه أن يكرهه على ولايته بالوسائل الكافية.." [2] . [ ص: 74 ]
لكن الأمر بكل وضوح فوق تدبير وإمكانات البشر، فالوصول إلى مثل هذا المنصب المهم والمشكل ملامح الأمة والمرتبط بالتاريخ، مثل هذا الوصول - فوق تدبير وإمكانات البشر، إنما هو من تدبير الله تعالى للإمام، وتجليه لسنة الله تعالى في عدم تضييع عمل العاملين وجهد المجتهدين.
- اعتزاز الإمام بالأزهر الشريف:
الأزهر مؤسسة إسلامية عريقة يشع من جنباتها نور العلم في جنبات الأرض كلها، ويعقد عليها العالم الإسلامي بعد الله تعالى الآمال في إصلاح واقع الأمة الإسلامية، وكان في التفكير الإصلاحي للإمام محمد الخضر حسين، رحمه الله، دور الأزهر وأهمية انطلاق الإصلاح منه، فقد كان معولا عليه، ومعتزا به، ومثنيا على نظام التعليم فيه.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي في مقابلة يوم الاثنين 13 / 5 /1370هـ- 19 / 2 / 1951م مع فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين: ".... وسألته عن مدة إقامته في مصر، فقال: لي الآن ثلاثون عاما في مصر، وأصلي من الجزائر، ومولدي تونس، وقضيت نحو عشرة أعوام قبل مصر في سورية وغيرها.. وقد تخرج في جامع الزيتونة بتونس وأقام في ألمانيا. كذلك سألته عن الأزهر وجامع الزيتونة أيهما أقدم، وأيهما أعظم، فقال: الأزهر أقدم وأعظم، ويليه في القدم وكثرة الطلبة جامع الزيتونة..." [3] . [ ص: 75 ]
فالإمام، رحمه الله، يجمع في وصفه للأزهر بين القدم والعظم في مجال المقارنة بينه وبين جامع الزيتونة، وهذا الوصف يجلي مكانة الأزهر في قلب الشيخ، ومدى تغلغله في وجدانه.
- طبيعة الاعتزاز بالأزهر:
كان الإمـام، رحمـه الله، معتزا بالأزهـر كمؤسـسـة عريقة وكعـبة للعلـم، ولم يكن اعتزازه بالمنصب المجرد، وفرق كبير بين الاعتزاز المجرد بالمنصب والاعتزاز الموضوعي، وبين الاعتزاز الذي يؤدي إلى تحول المنصب إلى وثن يعبد من دون الله، وبين الاعتزاز الذي يرافق صاحبه في فترة وجوده في منصبه إلى أن يسلمه إلى غيره كاملا غير منقوص، ومجبورا غير مكسور، ومرفوعا غير مهان.
كان يقول: "إن الأزهر أمانة في عنقي أسلمها - حين أسلمها - موفورة، كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص" [4] .
وهذا الفهم لما يشكله الأزهر من دور كبير في حياة الأمة كلها، ولابد من الوعي بحقيقة المنصب، وبما يترتب عليه في تاريخ الأمة الإسلامية. [ ص: 76 ]