المبحث الأول
الإسلام دين الإنسان
هل نكون مجانبين للصواب، إن قلنا: إن الإسلام بقدر ما هو دين رباني فإنه دين إنساني؟... قطعا لن نكون أبدا بعيدين عن الحقيقة، ولا عن الواقع.
فإذا كان من أخص خصائص الإسلام أنه دين (رباني)، من حيث مصدره، ومن حيث مضامين أحكامه، من حيث الغاية التي من أجلها نزل... فإن من أخص خصائصه أيضا، أنه إنما جاء أساسا للإنسان.
ونـحن هنا، نتحدث عن الإسلام في تجليه الأخير مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ القرآن عندما يتحدث عن الإسلام، فهو يتحدث عنه باعتباره دين الله الذي ارتضاه للبشر جميعا والذي بعث به الأنبياء كلهم، كما يتحدث عنه باعتباره الرسالة الخاتمة، التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مقصدنا في هذا المقام.
فالإسلام، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم (عقيدة وشريعة وخلقا)، رسالة متكاملة، ومكملة ومهيمنة.
متكاملة مع ما جاء قبلها ومكملة له... ولكنها أيضا مهيمنة وناسخة، وهذا ما يؤهلها لتكون مساوقة للإنسان في آخر تكاملاته... وهذه نقطة سنعود إلى تحليلها لاحقا. [ ص: 10 ]
وإنسانية الإسلام نعني بها، أن الإنسان يأتي في مركز الخطاب القرآني... فالإسلام إلهي من حيث المصدر والغاية والمضامين، وهو إنساني من حيث المقصود بالخطـاب، وهـذه مـن الأمـور الـتي لا تخـفـى عمـن يتأمل كتاب الله - تعالى - أدنى تأمل.
والملاحظة الأولية، ترينا أن مخاطبة الإنسان بالمطلق، تحتل حيزا كبيرا في الخطاب القرآني، خصوصا فيما يتعلق بالمسائل الأساسية (الوجود والوظيفة والمصير)، ثـم يأتي في المقـام الثاني خطـاب الإنسـان بصفة الإيـمان أو بغيرها من الصفات.
وسنحاول في هذا العنصر، أن نجلي معالم إنسانية الإسلام... أو بعبارة أخرى علاقة الإسلام بالإنسان.
وللوصول إلى هذه الغاية أمامنا مسلكان:
- الأول: الإحصاء الكمي لمادة (إنسان) وتفرعاتها، وتتبع نسبتها ضمن الخطاب القرآني.
- الثاني: تحليل بنية الخطاب القرآني، من حيث هو، والبحث عن مركزية الإنسان فيه.
وكلا المسلكين وجدا من تناولهما في أطروحاته، حول القرآن والإنسان، وسنأخذ بنصيب من كل مسلك، مع إعطاء الأولوية للمسلك الثاني؛ لأنه هو ما نراه الأقرب للوفاء بمقصودنا في هذا الفصل، وإن كان للمسلك الأول أيضا أهميته، من حيث الدلالة الكمية، التي لا تخلو من فائدة تزيد موضوعنا جلاء. [ ص: 11 ]
- فعلى المستوى (الكمي)، نجد القرآن الكريم، قد احتفى احتفاء ظاهرا بـ(الإنسان)، فإذا تجاوزنا أسماء السور التي تضمنت معانيها ما يدل على الإنسان أو بعض ما يرمز إلى فئات من الإنسان، مثل (النساء، الإنسان، المؤمنون، الناس، الكافرون... .)، فإننا نصادف ألفاظا مثل (إنسان، الناس، الإنس، بشر، بنو آدم) قد تكررت كثيرا وبشكل ملفت، في العديد من الآيات وفي سياقات مختلفة.
وهذه النظرة الإحصائية لا بد وأن يكون لها دلالة ما، خصوصا إذا نظرنا إلى القرآن باعتباره (نصا) جاء ليؤسس ثقافة جديدة، في أمة لم يكن لها عهد بالأنساق الفلسفية، في نظرتها إلى الظواهر، كما هو شأن البيئات الحضارية الأخرى، مثل اليونان والفرس والهند، إذ لم تكن حكم الإنسان العربي ـ على حد تعبير الجاحظ ـ إلا فلتات، تأتي هكذا بلا روية ولا تفكير. [1] [ ص: 12 ]
ويكفي أن نشير هنا - ونحن ما زلنا مع النظرة الظاهرية - أن أول نص دشن عملية الوحي، أي كان تأسيسا للنص المؤسس للثقافة الجديدة، قد افتتح بالحديث عن الإنسان، متوجها إليه بالخطاب، منوها بعظمة خلقه، وعميم نعم خالقه عليه، قال تعالى: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:1-5).
- أما على المستوى الثاني، وهو ما يهمنا أكثر في هذا المقام، فإننا نجد الخطـاب القرآني قـد أحـاط بالإنسـان من الناحيـة المفهـومية إحاطـة تامة، حـتى لكأنه - بل هو كذلك- ما أنزل إلا لغـاية واحـدة، وهـي أن يـجـلي في الإنسان إنسانيته.
وعلينا في هذا المقام أن ننظر في أمرين:
1- كيف تحدث القرآن عن الإنسان؟
2- كيف تحدث القرآن مع الإنسان؟
والإجابة عن هذين السؤالين تحدد لنا مكانة الإنسان في الخطاب القرآني... بل الإنسان المطلوب تحقيقه لينسجم مع طبيعة الدين الذي ارتضاه الله - تعالى - له.