كانت حنيفة (أثلاثا) فثلثهم من العبيد (وثلث من مواليها )
و ( من ) إما للعقلاء أو لهم ولغيرهم على سبيل التغليب لأنه يأمن فيه الوحش والطير بل والنبات ، فحينئذ يراد بالأمن ما يصح نسبته إلى الجميع بضرب من التأويل ، وعلى التقدير الأول يحتمل أن يراد بالأمن الأمن في الدنيا من نحو القتل والقطع وسائر العقوبات ، فقد أخرج عن ابن أبي حاتم في الآية أنه قال : كان الرجل في الجاهلية يقتل الرجل ثم يدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول أو أبوه فلا يحركه . الحسن
وأخرج عن ابن المنذر أنه قال : لو وجدت فيه قاتل عمر بن الخطاب الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه .
وأخرج عن ابنه أنه قال : لو وجدت قاتل ابن جرير في الحرم ما هجته . عمر
وعن : لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أتعرض له . ابن عباس
ومذهبه في ذلك أن من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم [ ص: 7 ] ولا يؤذى ، ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه ما جر ، فإن قتل أو سرق في الحرم أقيم عليه في الحرم ، والروايات عنه في ذلك كثيرة ، وقد تقدم تفصيل الأقوال في المسألة ، وأما أن يراد به كما ذهب إليه الصادق رضي الله تعالى عنه الأمن في الآخرة من العذاب ، فقد أخرج وغيره عن عبد بن حميد يحيى بن جعدة أن من دخله كان آمنا من النار ، وأخرج عن البيهقي قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ابن عباس ، وروي من غير طريق عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : من دخل البيت دخل في حسنة ، وخرج من سيئة مغفورا له ، وفي رواية عن من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة قال : من قبر ابن عمر بمكة مسلما بعث آمنا يوم القيامة ، ويجوز إرادة العموم بأن يفسر بالأمن في الدنيا والآخرة ولعله الظاهر من إطلاق اللفظ .
ولله على الناس حج البيت جملة ابتدائية المبتدأ فيها حج والخبر ( لله ) و ( على الناس ) متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالا من المستتر في الجار والمجرور ، والعامل فيه الاستقرار .
وجوز أن يكون ( على الناس ) خبرا و ( لله ) متعلق بما تعلق به ، ولا يجوز أن يكون حالا من المستكن في الناس لأن العامل في الحال حينئذ يكون معنى ، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي عند الجمهور ، وجوزه ابن مالك إذا كان الحال ظرفا أو حرف جر وعامله كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما لا يتقدمان على عاملهما المعنوي ، وجوز أن يرتفع الحج بالجار الأول أو الثاني وهو في اللغة مطلق القصد أو كثرته إلى من يعظم ، والمراد به هنا قصد مخصوص غلب فيه حتى صار حقيقة شرعية ، وأل في البيت للعهد ، وقرأ حمزة والكسائي في رواية وعاصم حفص ( حج ) بالكسر كعلم وهو لغة نجد من استطاع إليه سبيلا بدل من الناس بدل البعض من الكل والضمير في البدل مقدر أي منهم ، وقيل : بدل الكل من الكل ، والمراد من الناس خاص ولا يحتاج إلى ضمير ، وقيل : خبر لمحذوف أي هم من استطاع أو الواجب عليه من استطاع .
وجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل أعني أعني ، وأن يكون فاعل المصدر وهو مضاف إلى مفعوله أي - ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم البيت - وفيه مناقشة مشهورة و ( من ) على هذه الأوجه موصولة .
وجوز أن تكون شرطية والجزاء محذوف يدل عليه ما تقدم ، أو هو نفسه على الخلاف المقرر بين البصريين والكوفيين ، ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط ( على الناس ) والتقدير من استطاع منهم إليه سبيلا فلله عليه أن يحج ، ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده ، والضمير المجرور للبيت أو للحج لأنه المحدث عنه ، وهو متعلق بالسبيل لما فيه من معنى الإفضاء ، وقدم عليه للاهتمام بشأنه ، والاستطاعة في الأصل استدعاء طواعية الفعل وتأتيه ، والمراد بالاستدعاء الإرادة وهي تقتضي القدرة فأطلقت على القدرة مطلقا أو بسهولة فهي أخص منها وهو المراد هنا ، وسيأتي تحقيقه قريبا إن شاء الله تعالى ، والقدرة إما بالبدن أو بالمال أو بهما ، وإلى الأول ذهب الإمام فيجب الحج عنده على من قدر على المشي والكسب في الطريق ، وإلى الثاني ذهب الإمام مالك ، ولذا أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه ، وإلى الثالث ذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه ، ويؤيده ما أخرجه الشافعي وغيره عن البيهقي رضي الله تعالى عنهما أنه قال : السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به . ابن عباس
واستدل الإمام رضي الله تعالى عنه بما أخرجه الشافعي عن الدارقطني قال : جابر بن عبد الله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قام رجل فقال : يا رسول الله ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة . وروي هذا من طرق شتى وهو ظاهر فيما ذهب إليه لما نزلت [ ص: 8 ] هذه الآية حيث قصر الاستطاعة على المالية دون البدنية ، وهو مخالف لما ذهب إليه الإمام الشافعي مخالفة ظاهرة ، وأما إمامنا فيؤول ما وقع فيه بأنه بيان لبعض شروط الاستطاعة بدليل أنه لو فقد أمن الطريق مثلا لم يجب الحج عليه ، والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتعرض لصحة البدن لظهور الأمر ، كيف لا والمفسر في الحقيقة هو السبيل الموصل لنفس المستطيع إلى البيت ، وذا لا يتصور بدون الصحة ، ومما يؤيد أن ما في الحديث بيان لبعض الشروط أنه ورد في بعض الروايات الاقتصار على واحد مما فيه ، فقد أخرج مالك أيضا عن الدارقطني كرم الله تعالى وجهه علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن السبيل فقال : أن تجد ظهر بعير ولم يذكر الزاد .
هذا واستدل بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل ، وفساد القول بأنها معه ، ووجه الاستدلال ظاهر ، وأجيب بأن الاستطاعة التي ندعي أنها مع الفعل هي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل وتطلق الاستطاعة على معنى آخر هو سلامة الأسباب والآلات والجوارح ، أي كون المكلف بحيث سلمت أسبابه وآلاته وجوارحه ، ولا نزاع لنا في أن هذه الاستطاعة قبل الفعل وهي مناط صحة التكليف ، وما في الآية بهذا المعنى كذا قالوا .
وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما قالوا : إن المشهور عن أن القدرة مع الفعل بمعنى أنها توجد حال حدوثه وتتعلق به في هذه الحال ، ولا توجد قبله فضلا عن تعلقها به ، ووافقه على ذلك كثير من الأشعري المعتزلة كالنجار ومحمد بن عيسى وابن الراوندي وأبي عيسى الوراق وغيرهم ، وقال أكثر المعتزلة : القدرة قبل الفعل ، وتتعلق به حينئذ ، ويستحيل تعلقها به قبل حدوثه ، ثم اختلفوا في بقاء القدرة فمنهم من قال : ببقائها حال وجود الفعل ، وإن لم تكن القدرة الباقية قدرة عليه ، ومنهم من نفاه ، ودليلهم على ذلك وجوه .
الأول : أن تعلق القدرة بالفعل معناه الإيجاد ، وإيجاد الموجود محال لأنه تحصيل الحاصل ، بل يجب أن يكون الإيجاد قبل الوجود ، ولهذا صح أن يقال : أوجده فوجد ، وأجيب بأن هذا مبني على أن القدرة الحادثة مؤثرة وهو ممنوع ، وعلى تقدير تسليمه يقال : إيجاد الموجود بذلك الوجود الذي هو أثر ذلك الإيجاد جائز بمعنى أن يكون ذلك الوجود الذي هو به موجود في زمان الإيجاد مستندا إلى الموجد ومتفرعا على إيجاده ، والمستحيل هو إيجاد الموجود بوجود آخر ، وتحقيقه أن التأثير مع حصول الأثر بحسب الزمان وإن كان متقدما عليه بحسب الذات وهذا التقدم هو المصحح لاستعمال الفاء بينهما .
الثاني : إن جاز تعلق القدرة حال الحدوث يلزم القدرة على الباقي حال بقائه والتالي باطل ، بيان الملازمة أن المانع من تعلق القدرة به ليس إلا كونه متحقق الوجود ، والحادث حال حدوثه متحقق الوجود أيضا ، وأجيب بأنا نلتزمه لدوام وجوده بدوام تعلق القدرة به أو نفرق بما يبطل به الملازمة من احتياج الموجود عن عدمه إلى المقتضي دون الباقي ، فلو لم تتعلق القدرة بالأول لبقي على عدمه ، وقد فرض وجوده هذا خلف، ولو لم تتعلق بالثاني لبقي على الوجود وهو المطابق للواقع ، أو ننقض الدليل أولا بتأثير العلم أو العالمية بالاتفاق ، فإن ذلك مشروط حال حدوث الفعل دون بقائه ، وثانيا بتأثير الفعل في كون الفاعل فاعلا ، فإن الفعل مؤثر في ذلك حال الحدوث ، وبتقدير كون الفعل باقيا لا يؤثر حال البقاء ، وثالثا بمقارنة الإرادة إذ يوجبونها حال الحدوث دون البقاء فكذا الحال في القدرة.
[ ص: 9 ] الثالث : أن كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى ، أو قدم مقدوره ، وكلاهما باطلان ، بل قدرته أزلية وتعلقها في الأزل بمقدوراته ، فقد ثبت تعلق القدرة بمقدوراتها قبل الحدوث ، ولو كان ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القدرة القديمة وليس فليس ، وأجيب بأن القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا ، فلا يلزم من جواز تقدمها على الفعل جواز تقدم الحادثة عليه ، ثم إن القديمة متعلقة في الأزل بالفعل تعلقا معنويا لا يترتب عليه وجود الفعل ، ولها تعلق آخر به حال حدوثه موجب لوجوده فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنوي قدم آثارها .
الرابع : أنه يلزم على ذلك التقدير أن لا يكون الكافر في زمان كفره مكلفا بالإيمان لأنه غير مقدور له في تلك الحالة المتقدمة عليه بل نقول : يلزم أن لا يتصور عصيان من أحد إذ مع الفعل لا عصيان ، وبدونه لا قدرة ، فلا تكليف فلا عصيان ، وأيضا أقوى أعذار المكلف التي يجب قبولها لدفع المؤاخذة عنه هو كون ما كلف به غير مقدور له ، فإذا لم يكن قادرا على الفعل قبله وجب رفع المؤاخذة عنه بعدم الفعل المكلف به وهو باطل بإجماع الأمة ، وأيضا لو جاز تكليف الكافر بالإيمان مع كونه غير مقدور له فليجز تكليفه بخلق الجواهر والإعراض ، وأجيب بأنه يجوز تكليف المحال عندنا فيلتزم جواز التكليف بالخلق المذكور ، ولنا أن نفرق بأن ترك الإيمان إنما هو بقدرته بخلاف عدم الجواهر والإعراض ، فإنه ليس مقدورا له أصلا فلا يلزم من جواز التكليف بالإيمان جواز التكليف بخلقها ، وبالجملة فكون الشيء مقدورا الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون الشيء أو ضده متعلقا للقدرة ، وهذا حاصل في الإيمان لأن تركه لتلبسه بضده مقدور له حال كفره بخلاف إحداث الجواهر والأعراض ، فإنه غير مقدور له أصلا لا فعلا ولا تركا ، فلا يجوز التكليف به ، وأما ما ذكر من قضية الأعذار ووجوب قبولها فمبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وقد أقيمت الأدلة على بطلانهما في محله كذا في المواقف وشرحه .
ودليل ما شاع عن قيل : هو أن القدرة عرض يخلقه الله تعالى في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية ، فيجب أن تكون مقارنة للفعل بالزمان لا سابقة عليه ، وإلا لزم وقوع الفعل بلا قدرة لما برهن عليه من امتناع بقاء الأعراض ؛ واعترض عليه بما في أدلة امتناع بقاء الأعراض من النظر القوي ، وأنه قد يقال على تقدير تسليم الامتناع المذكور لا نزاع في إمكان تجدد الأمثال عقيب الزوال ، فمن أين يلزم وقوع الفعل بدون القدرة ؟ وأجيب بأنا إنما ندعي لزوم ذلك إذا كانت القدرة التي بها الفعل هي القدرة السابقة ، وأما إذا جعلتموها المثل المتجدد المقارن فقد اعترفتم بأن القدرة التي بها الفعل لا تكون إلا مقارنة ، ثم إن ادعيتم أنه لا بد لها من أمثال تقع حتى لا يمكن الفعل بأول ما يحدث من القدرة فعليكم البيان . الأشعري
وفيه أن هذا قول بأن نفي وجود المثل السابق ليس داخلا في دعوى وهو خلاف ما علم مما تقدم في تقرير مذهبه ، وذكر في المواقف دليلا آخر الأشعري للأشعري على ما ادعاه ونظر فيه أيضا - هذا كلامهم - والحق عندي في هذه المسألة أن شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة بإذن الله تعالى عند انضمام الإرادة التابعة لإرادة الله تعالى لقوله سبحانه : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وإيضاحه أنه تعالى كما أنه غني بالذات عن العالمين كذلك حكيم جواد ، وكما أن غناه الذاتي أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد كذلك مقتضى جوده ورحمته مراعاة ما اقتضته حكمته سبحانه كما أشار إليه العضد في عيون الجواهر ، وأطال الكلام فيه أبو عبد الله الدمشقي في شفاء العليل . [ ص: 10 ] ومن المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال وينهي عنه من لا يقدر على الاجتناب ، فلا بد بمقتضى الحكمة التي رعاها سبحانه فيما خلق وأمر فضلا ورحمة أن يكون التكليف بحسب الوسع ، وإذا كان كذلك كان شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة إذا انضم إليها الإرادة ، وهذه قبل الفعل والقدرة التي هي مع الفعل هي القدرة المستجمعة لشرائط التأثير التي من جملتها انضمام الإرادة إليها ، وبهذا جمع الإمام الرازي - كما في المواقف - بين مذهب القائل بأن القدرة مع الفعل ، الأشعري والمعتزلة القائلين بأنها قبله ، وقال : لعل أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين ، الأشعري والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة ، وهو جمع صحيح ، وقول السيد قدس سره - في توجيه البحث الذي ذكره صاحب المواقف فيه بأن القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال : إنه أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير - مدفوع بما تبين في الإبانة التي هي آخر مصنفاته .
والمعتمد من كتبه كما صرح به ابن عساكر والمجد بن تيمية وغيرهما أن الشيخ قائل بالتأثير للقدرة المستجمعة للشرائط لكن لا استقلالا كما يقوله المعتزلة ، بل بإذن الله تعالى وهو معنى الكسب عنده ، وأما قوله في شرح المواقف : إن الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد ، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلا له ، وهو مذهب الشيخ أفعال العباد أبي الحسن الأشعري ففيه بحث من وجوه .
( أما أولا ) فلأن هذا ليس مذهب الشيخ المذكور في آخر تصانيفه التي استقر عليها الاعتماد ، وذكره في غيره إن سلم لا يعول عليه ؛ لكونه مرجوحا مرجوعا عنه .
( وأما ثانيا ) فلأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق أمرا أو نهيا بالأفعال الاختيارية أنفسها لا بمقارنة القدرة والإرادة لها ، فمكسوب العبد نفس الفعل الاختياري ، والمراد بكسبه إياه تحصيله إياه بتأثير قدرته بإذن الله تعالى لا مستقلا ، فالقول بأن المراد بكسب العبد للفعل هو مقارنة الفعل لقدرته وإرادته من غير تأثير لا يوافق ما اقتضاه صرائح الكتاب والسنة ونصوص الإبانة ، ويزيده وضوحا حديث أنه أبي هريرة وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق ؛ الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها . الحديث . فإنه صريح بأن الذي كلفوا به ما يطيقونه من نفس الأعمال وهو نفس الصلاة وأخواتها لا مقارنتها لقدرتهم وإرادتهم ، وأقرهم صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك . لما نزل
( وأما ثالثا ) فلأن مقارنة الفعل لقدرة العبد وإرادته لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها ، ولو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعا ؛ لأن المقارنة أمر يترتب على فعل الله تعالى أي على إيجاد الله تعالى الفعل الاختياري مقارنا لهما ، وما يترتب على فعل الله تعالى ليس مقدورا للعبد أصلا ؛ لأن معنى كون الشيء مقدورا له أن يكون ممكن الإيقاع بقدرته عند تعلق مشيئته به الموافقة لمشيئة الله تعالى كما هو واضح من حديث وما يترتب على فعل الله تعالى لا يكون مقدورا للعبد بهذا المعنى إذ لو كان مقدورا له ابتداء [ ص: 11 ] لزم أن لا يكون مترتبا على فعل الله تعالى أو بواسطة لزم أن يكون فعل الله تعالى المترتب عليه هذا مقدورا للعبد ، واللازم باطل بشقيه بعد القول بنفي التأثير أصلا ، فكذا الملزوم . " من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه "
( وأما رابعا ) فلأن المقارنة لكونها مترتبة على فعل الله تعالى لا تختلف بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة ، فلو كانت هي المكلف بها لاستوى بالنسبة إلى العبد التكليف بأشق الأعمال والتكليف بأسهلها ، مع أن نص الكتاب التكليف بحسب الوسع ، ونص السنة أن المملوك لا يكلف إلا ما يطيق ، شاهدان على التفاوت كما أن البديهة تشهد بذلك ، واعترض هذا من وجوه .
الأول : أن القول بأن من المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال يقتضي أن أفعال الله تعالى وأحكامه لا بد فيها من حكمة ومصلحة وهو مسلم ، لكن لا نسلم أنه لا بد أن تظهر هذه المصلحة لنا ، إذ الحكيم لا يلزمه إطلاع من دونه على وجه الحقيقة - كما قاله القفال في محاسن الشريعة - وحينئذ فما المانع من أن يقال هناك مصلحة لم نطلع عليها ، ويجاب بأنا لم ندع سوى أن الله تعالى قد راعى الحكمة فيما أمر وخلق تفضلا ورحمة لا وجوبا ، وهذا ثابت بقوله تعالى : صنع الله الذي أتقن كل شيء وقوله سبحانه : أحسن كل شيء خلقه وبالإجماع المعصوم عن الخطأ بفضل الله تعالى ، وإن مقتضى الحكمة أن لا يطلب حصول شيء إلا ممن يتمكن منه ويقدر عليه ، كما تشهد له النصوص ، ولم ندع وجوب ظهور وجه الحكمة في جميع أفعاله وأحكامه ولا ما يستلزم ذلك ، وبيان وجه الحكمة لحكم واحد لا يستلزم دعوى الكلية ، ويؤول هذا إلى أن الله تعالى أطلعنا على الحكمة في هذا مع عدم وجوب الاطلاع عليه .
والثاني : أن القول بأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق إلخ ، فيه أنه ليس المراد مطلق المقارنة بل المقارنة على جهة التعلق ، فالكسب عبارة عن تعلق القدرة الحادثة بالمقدور من غير تأثير كما في عبارة غير واحد ، فالأوامر والنواهي متعلقة بالأفعال التي هي اختيارية في الظاهر باعتبار هذا التعلق الذي لا تأثير معه وادعاء أنها صرائح في التعلق مع التأثير ممنوع بل هي محتملة ، ولو سلم أنها ظاهرة في التأثير ، فالظاهر قد يعدل عنه لدليل خلافه ، والقول بأنا لا نفهم من تعلق القدرة إلا تأثيرها وإلا فليست بقدرة ، فكيف يثبت للقدرة تعلق بلا تأثير ، سؤال مشهور ( وجوابه ) ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير من توابع القدرة ، وقد ينفك عنها ، ويجاب بأن تفسير الكسب - بالتعلق الذي لا تأثير معه مرادا به التحصيل بحسب ظاهر الأمر فقط - مصادم للنصوص الناطقة بأن العبد متمكن من إيجاد أفعاله الاختيارية بإذن الله تعالى ، ولا دليل على خلافه يوجب العدول ، والله خالق كل شيء لا ينافي التأثير بالإذن على أن تعلق القدرة تابع للإرادة ، وتعلقها على القول بنفي التأثير بالكلية غير صحيح كما يشير إليه كلام الجلال الدواني في بيان مبادي الأفعال الاختيارية ، ويوضحه كلام حجة الإسلام في كتاب التوحيد والتوكل من الإحياء ، وأما ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير قد ينفك عن القدرة فنحن نقول به إذ ما شاء الله تعالى كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وإنما الإنكار على نفي التأثير بالكلية عن القدرة الحادثة ، والاستدلال بما ذكره حجة الإسلام في الاقتصاد من أن القدرة الأزلية متعلقة في الأزل بالحادث ولا حادث فصح التعلق ولا تأثير ، ويجوز أن تكون القدرة الحادثة كذلك ، مجاب عنه بأن القدرة لا تؤثر إلا على وفق الإرادة ، والإرادة تعلقت أزلا بإيجاد الأشياء بالقدرة في أوقاتها اللائقة بها في الحكمة ، فعدم تأثيرها قبل الوقت لكونها مؤثرة على وفق الإرادة لا مطلقا ، فلا يجب تأثيرها قبل الوقت ، ويجب تأثيرها فيه ، والقدرة الحادثة على القول بنفي تأثيرها بالكلية لا يصدق عليها أنها تؤثر وفق الإرادة فلا يصح قياسها على القديمة ، [ ص: 12 ] والحاصل أن كل تعلق للقديمة على وفق الإرادة لا ينفك عنه التأثير في وقته بخلاف الحادثة فإنه لا تأثير لها أصلا على القول بنفي التأثير عنها كليا فلا تعلق لها بالتأثير على وفق الإرادة . الغزالي
والثالث : أن القول في الاعتراض الثالث أنه لو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعا إلخ يقال عليه : نلتزم وقوعه عند ولا محذور فيه ، ويجاب بأنه قد حقق في موضعه أن الإمام الأشعري لم ينص على ذلك ، ولا يصح أخذه من كلامه ، فالتزام وقوعه عنده التزام ما لم يقل به لا صريحا ولا التزاما ، والقول أنه لا محذور فيه ، إنما يصح بالنظر إلى الغنى الذاتي ، وأما بالنظر إلى أنه تعالى جواد حكيم فالتزامه مصادمة للنص وأي محذور أشنع من هذا . الأشعري
والرابع : أن القول هناك أيضا أن المقارنة لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها غير لازم ، فإن الكسب يطلق على المعنى المصدري ، ويطلق على المفعول أي المكسوب وهو نفس الأمر لا الكسب بمعنى المقارنة أو تعلق القدرة الحادثة بالفعل ، فمعنى كسب تعلقت قدرته بالفعل ، وإن شئت قلت : قارنت قدرته الفعل فكان الفعل مكسوبا وهو المكلف به ، ويجاب بأن الكسب الحقيقي الوارد في الكتاب والسنة معناه تحصيل العبد ما تعلقت به إرادته التابعة لإرادة الله تعالى بقدرته المؤثرة بإذنه ، وإن مكسوبه ما حصله بقدرته المذكورة فمعنى كون الفعل المكسوب مكلفا به هو أن العبد المكلف مطلوب منه تحصيله بالكسب بالمعنى المصدري ؛ لأن المكسوب هو الحاصل بالمصدر فإذا كان المكسوب مكلفا به كان الكسب بالمعنى المصدري مكلفا به قطعا ؛ لامتناع حصول المكسوب من غير قيام المعنى المصدري بالمكلف ضرورة انتفاء الحاصل بالمصدر عند انتفاء قيام المصدر بالمكلف فظهرت الملازمة في الشرطية .
( والخامس ) أن القول في الاعتراض أن المقارنة لكونها أمرا مترتبا على فعل الله تعالى لا تختلف إلخ ، فيه أمران : الأول : أنا لا نسلم التلازم بين كون المقارنة هي المكلف بها وبين عدم الاختلاف ، وأي مانع من أن تكون مختلفة باعتبار أحوال الشخص عندها ، فتارة يخلق الله تعالى فيه صبرا وعزما وتارة جزعا وفتورا إلى غير ذلك مما يرجع إلى سلامة البنية ومقابله ، أو غيرهما من الأعراض والأحوال التي يخلقها الله تعالى ويصرف عبده فيها كيف شاء ، مما يوجب ألما أو لذة .
الثاني : أن ما ذكرتموه مشترك الإلزام ، إذ يقال : إذا كانت قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى فبأي وجه وقع الاختلاف حتى كان هذا سهلا وهذا صعبا ، وكلاهما مقدور ، وهما متساويان في الإمكان ؟ ويجاب : أما عن الأول بأن التلازم بين كونها مترتبة على فعل الله تعالى وبين عدم اختلافها متحقق لأنها إذا كانت الكسب بالمعنى المصدري كانت تحصيلا للمكسوب ، والتحصيل لكونه قائما بالمكلف تتفاوت درجاته صعوبة وسهولة قطعا ، ولهذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : " صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب ".
والمقارنة لكونها أمرا مرتبا على فعل الله تعالى ليست قائمة بالعبد فلا تتفاوت بالنسبة إليه أصلا ، والإيراد بتجويز اختلافها بكون بعضها بخلق الله تعالى عنده صبرا في العبد إلخ خارج عن المقصود ؛ لأن العبارة صريحة في أن المقصود عدم اختلافها بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة لا مطلق الاختلاف ، وأما عن الثاني فبأنه قد دلت النصوص على تفاوت درجات القوة والبطش كقوله تعالى : كانوا أكثر منهم وأشد قوة وقوله سبحانه : كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا وقوله عز شأنه : فأهلكنا أشد منهم بطشا وباختلاف درجات ذلك في الأقوياء التابع لاستعداداتهم الذاتية الغير المجعولة ، وقع الاختلاف في الأعمال صعوبة وسهولة ، هذا ما ظفرنا به من تحقيق الحق من كتب ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم ، وجعل أعلى الفردوس قرارهم ، [ ص: 13 ] وإنما استطردت هذا المبحث هنا مع تقدم إشارات جزئية إلى بعض منه لأنه أمر مهم جدا لا تنبغي الغفلة عنه فاحفظه فإنه من بنات الحقاق لا من حوانيت الأسواق ، والله تعالى الموفق لا رب غيره .
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (79) يحتمل أن يراد بمن كفر من لم يحج وعبر عن ترك الحج بالكفر تغليظا وتشديدا على تاركه ، كما وقع مثل ذلك فيما أخرجه سعيد بن منصور وغيرهما عن وأحمد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أبي أمامة . ومثله ما روي بسند صحيح عن " من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حالة شاء يهوديا أو نصرانيا " رضي الله تعالى عنه أنه قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ، ويحتمل إبقاء الكفر على ظاهره بناء على ما أخرج عمر بن الخطاب ابن جرير وغيرهما عن وعبد بن حميد " أنه لما نزلت عكرمة ومن يبتغ غير الإسلام دينا الآية . قال اليهود : فنحن مسلمون ، فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تعالى فرض على المسلمين حج البيت ، فقالوا : لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا ، فنزل : ومن كفر الآية .
ومن طريق أنه الضحاك لما نزلت آية الحج ، جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال : إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فحجوا البيت ، فلم يقبله إلا المسلمون ، وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله ، فأنزل الله سبحانه : ومن كفر إلخ . وإلى إبقائه على ظاهره ذهب ، فقد أخرج ابن عباس عنه أنه قال في الآية : ( البيهقي ومن كفر ) بالحج فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما ، وروى ابن جرير أن الآية لما نزلت قام رجل من هذيل فقال : يا رسول الله ، من تركه كفر ؟ قال : من تركه لا يخاف عقوبته ، ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك .
وعلى كلا الاحتمالين لا تصلح الآية دليلا لمن زعم أن كافر ، و ( من ) تحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، وعلى الاحتمالين استغنى فيما بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر ، إذ الأصل فإن الله غني عنهم . مرتكب الكبيرة
ويجوز أن يبقى الجمع على عمومه ، ويكتفى عن الضمير الرابط بدخول المذكورين فيه دخولا أوليا والاستغناء في هذا المقام كناية عن السخط على ما قيل ، ولهذا صح جعله جزاء وإن أبيت فهو دليله ، وفي الآية كما قالوا فنون من الاعتبارات المعربة عن كمال ما لا مزيد عليه ، وعدوا من ذلك إيثار صيغة الخبر وإبرازها في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في ذمم الناس ، وتعميم الحكم أولا ، وتخصيصه ثانيا ، وتسمية ترك الحج كفرا من حيث إنه فعل الكفرة ، وذكر الاستغناء والعالمين . الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه
وذكر الطيبي أن في تخصيص اسم الذات الجامع وتقديم الخبر الدلالة على أن ذلك عبادة لا ينبغي أن تختص إلا بمعبود جامع للكمالات بأسرها ، وأن في إقامة المظهر وهو البيت مقام المضمر بعد سبقه منكرا المبالغة في وصفه أقصى الغاية ، كأنه رتب الحكم على الوصف المناسب ، وكذا في ذكر الناس بعد ذكره معرفا الإشعار بعلية الوجوب وهو كونهم ناسا ، وفي تذييل : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين لأنها في المعنى تأكيد الإيذان بأن ذلك هو الإيمان على الحقيقة وهو النعمة العظيمة ، وأن مباشره مستأهل لأن الله تعالى بجلالته وعظمته يرضى عنه رضا كاملا ، كما كان ساخطا على تاركه سخطا عظيما ، وفي تخصيص هذه العبادة وكونها مبينة لملة [ ص: 14 ] إبراهيم عليه السلام بعد الرد على أهل الكتاب فيما سبق من الآيات والعود إلى ذكرهم بعد خطب جليل وشأن خطير لتلك العبادة العظيمة ، واستأنس بعضهم لكونه عبادة عظيمة بأنه من الشرائع القديمة بناء على ما روي أن آدم عليه السلام حج أربعين سنة من الهند ماشيا ، وأن جبريل قال له : إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت سبعة آلاف سنة ، وادعى أنه لم يبعث الله تعالى نبيا بعد ابن إسحاق إبراهيم إلا حج ، والذي صرح به غيره أنه ما من نبي إلا حج خلافا لمن استثنى هودا وصالحا عليهما الصلاة والسلام ، وفي وجوبه على من قبلنا وجهان قيل : الصحيح أنه لم يجب إلا علينا واستغرب ، وادعى جمع أنه أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن ، وفي وقت وجوبه خلاف فقيل : قبل الهجرة ، وقيل : أول سنيها وهكذا إلى العاشرة ، وصحح أنه في السادسة ، نعم حج صلى الله تعالى عليه وسلم قبل النبوة وبعدها وقبل الهجرة حججا لا يدرى عددها والتسمية مجازية باعتبار الصورة بل قيل ذلك في حجة رضي الله تعالى عنه أيضا في التاسعة ، لكن الوجه خلافه لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يؤمر إلا بحج شرعي ، وكذا يقال في الثامنة التي أمر فيها الصديق عتاب بن أسيد أمير مكة ، وبعد ذلك حجة الوداع لا غير.