قولا سديدا قاصدا إلى الحق والسداد : القصد إلى الحق ، والقول بالعدل . يقال : سدد السهم نحو الرمية : إذا لم يعدل به عن سمتها ، كما قالوا : سهم قاصد ، والمراد : نهيهم عما خاضوا فيه من حديث من غير قصد وعدل في القول ، والبعث على أن يسد قولهم في كل باب ; لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله . والمعنى : راقبوا الله في حفظ ألسنتكم ، وتسديد قولكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية [ ص: 102 ] الطلبة : من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها . وقيل : إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية وهذه الآية مقررة للتي قبلها ، بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ; ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع إتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة زينب موسى عليه السلام ، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه . لما قال : ومن يطع الله ورسوله وعلق بالطاعة الفوز العظيم ، أتبعه قوله : إنا عرضنا الأمانة وهو يريد بالأمانة الطاعة ، فعظم أمرها وفخم شأنها ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عز وعلا انقياد مثلها -وهو ما يتأتى من الجمادات - وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها . حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة ، كما قال : قالتا أتينا طائعين وأما الإنسان فلم تكن حاله -فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف - مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع ، والمراد بالأمانة : الطاعة ; لأنها لازمة الوجود ، كما أن الأمانة لازمة الأداء . وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها : مجاز . وأما حمل الأمانة فمن قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، تريد : أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها ; لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ، ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ، ولي عليه حق ، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها . ونحوه قولهم : لا يملك مولى لمولى نصرا . يريدون : أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل ، ومنه قول القائل [من الطويل ] :
أخوك الذي لا تملك الحس نفسه وترفض عند المحفظات الكتائف
أي : لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده ، بل يبذل ذلك ويسمح [ ص: 103 ] به . ومنه قولهم أبغض حق أخيك ؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده ، وإذا أبغضه أخرجه وأداه ، فمعنى : فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان ، فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها . ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة ، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها . والثاني : أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله : أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده : أن يتحمله ويستقل به ، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه ، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته إنه كان ظلوما جهولا حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها ، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها ، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب . وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم : لو قيل للشحم : أين تذهب ؟ لقال : أسوي العوج ، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات . وتصور مقاولة الشحم محال ، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه ، فصور أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها . فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ; لأنه مثلت حاله -فى تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما - بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه . وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، وليس كذلك ما في هذه الآية ; فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه ، غير مستقيم ، فكيف صح بناء التمثيل على المحال ، وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول . قلت : الممثل به في الآية وفى قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب . وفى نظائره مفروض ، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات : مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها . واللام في "ليعذب " لام التعليل على طريق المجاز ; لأن التعذيب نتيجة حمل الأمانة ، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب . وقرأ : (ويتوب ) ; ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدئ : ويتوب الله . ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها ; لأنه إذا تيب على الوافى كان ذلك نوعا من عذاب الغادر ، والله أعلم . الأعمش
[ ص: 104 ] قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه ، أعطي الأمان من عذاب القبر " .