إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير
أي: ينادون يوم القيامة، فيقال لهم: لمقت الله أكبر والتقدير: لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة. و إذ تدعون منصوب بالمقت الأول. والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: كأن الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء [ ص: 334 ] والكفر، حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذا أوقعتكم فيها باتباعكم هواهن. وعن لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم، فنودوا لمقت الله. وقيل: معناه: لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض، كقوله تعالى: الحسن: يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا [العنكبوت: 25]. و إذ تدعون : تعليل، والمقت: أشد البغض، فوضع في موضع أبلغ الإنكار وأشده. "اثنتين" إماتتين وإحياءتين، أو موتتين وحياتين، وأراد بالإماتتين: خلقهم أمواتا أولا، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحياءة الإحياءة الأولى وإحياءه البعث. وناهيك تفسيرا لذلك قوله تعالى: وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم [البقرة: 28] وكذا عن رضي الله عنهما. فإن قلت: كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا: إماتة؟ قلت: كما صح أن تقول: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل! وقولك للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر، ولا من ضيق إلى سعة، ولا من سعة إلى ضيق، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات، والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائز معا على المصنوع الواحد، من غير ترجح لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة. فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة الدنيا والتي بعد [ ص: 335 ] حياة القبر لزمه ثلاث إحياآت، وهو خلاف ما في القرآن، إلا أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتد بها، أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور، وتستمر بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها، ويعدهم في المستثنيين من الصعقة في قوله تعالى ابن عباس إلا من شاء الله [النمل: 78]. فإن قلت: كيف تسبب هذا لقوله تعالى: فاعترفنا بذنوبنا ؟ قلت: قد أنكروا البعث فكفروا، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى; لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم. فهل إلى خروج أي: إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل قط، أم اليأس واقع دون ذلك، فلا خروج ولا سبيل إليه. وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط، وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا; ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، وهو قوله: "ذلكم" أي: ذلكم الذي أنتم فيه، وأن لا سبيل لكم أي خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك به، فالحكم لله حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد، وقوله: العلي الكبير دلالة على الكبرياء والعظمة، وعلى أن عقاب مثله لا يكون إلا كذلك، وهو الذي يطابق كبرياءه ويناسب جبروته. وقيل: كأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا لله، من هذا.