تفسير سورة الشورى
هذه السورة مكية بإجماع من أكثر المفسرين، وقال : فيها مدني: [قوله تعالى] مقاتل ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلى قوله: بذات الصدور ، وقوله تعالى: والذين إذا أصابهم البغي إلى قوله تعالى: من سبيل ، وقال رضي الله عنهما في كتاب ابن عباس : إن الثعلبي حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله تعالى المنزلة على كل نبي أنزل عليه الكتاب، ولذلك قال تعالى: كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله .
قوله عز وجل:
حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم
فصلت: [حم] من [عسق] ولم يفعل ذلك بـ[كهيعص] لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها، وقرأ الجمهور: "حم عسق"، وقرأ ، ابن مسعود رضي الله عنهما: [حم سق] بسقوط "عين"، والأقوال في هذه كالأقوال في أوائل السور، وروى وابن عباس حديثا في هذا مضمنه حذيفة أنه سيكون في هذه الأمة مدينتان يشقهما نهر بالمشرق، تهلك إحداهما ليلا ثم تصبح الأخرى سالمة، فيجتمع فيها جبابرة المدينتين متعجبين من سلامتها، فتهلك من الليلة القابلة، وأن "حم" معناه: حم هذه الأمر، و"عين" معناه: [ ص: 499 ] عدلا من الله، و"سين": سيكون ذلك، و"قاف": معناه: يقع ذلك بهم. وروي أن رضي الله عنه كان يستفيد علم الفتن والحروب من هذه الأحرف التي في أوائل السور. علي بن أبي طالب
والكاف في قوله تعالى: "كذلك" نعت لمصدر محذوف، والإشارة بـ"ذلك" تختلف بحسب الأقوال في الحروف، وقرأ جمهور القراء: "يوحي" بالياء على إسناد الفعل إلى الله تعالى، وهي قراءة الحسن، ، والأعرج ، وأبي جعفر والجحدري، ، وعيسى ، وطلحة ، وقرأ والأعمش أبو حيوة، والأعشى عن عن أبي بكر : "نوحي" بنون العظمة، ويكون قوله تعالى: عاصم "الله" ابتداء وخبره "العزيز"، ويحتمل أن يكون خبره: له ما في السماوات ، وقرأ وحده: "يوحى" بالياء وفتح الحاء على بناء الفعل للمفعول، وهي قراءة ابن كثير ، والتقدير: يوحى إليك القرآن، يوحيه الله تعالى، وكما قال الشاعر: مجاهد
ليبك يزيد ضارع لخصومة
ومنه قوله تعالى: يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال ، وقوله تعالى: وإلى [ ص: 500 ] الذين من قبلك يريد: من الأنبياء الذين نزلت عليهم الكتب.
وقوله تعالى: له ما في السماوات أي الملك والخلق والاختراع، و"العلي" من علو القدر والسلطان، و"العظيم" كذلك، وليس بعلو مسافة ولا عظم جرم، تعالى الله عن ذلك. وقرأ ، نافع : "يكاد" بالياء، وقرأ والكسائي ، ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، وأبو عمرو : "تكاد" بالتاء، وقرأ وعاصم ، ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، ونافع ، وابن عباس ، وأبو جعفر وشيبة ، : "يتفطرن" من "التفطر"، وهو مطاوع "فطر"، وقرأ وقتادة ، أبو عمرو ، وعاصم ، والحسن ، والأعرج ، وأبو رجاء والجحدري: [ينفطرن] من "الانفطار"، وهو مطاوع "فطر"، والمعنى فيهما: يتصدعن ويتشققن من سرعة جريهن خضوعا وخشية من سلطان الله تعالى، وتعظيما له وطاعة، وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل ونحوه مردود، وذلك لأن الله تعالى لا يوصف به، وقوله تعالى: من فوقهن أي: من أعلاهن، وقال : الضمير للكفار. الأخفش علي بن سليمان
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والمعنى: من فوق الفرق والجماعات الملحدة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات يتفطرن، فهذه الآية - على هذا - كالآية التي في "كهيعص"، وقالت فرقة: معناه: من فوق الأرضين، إذ قد جرى ذكر الأرض، وذكر أنه قرئ: "يتفطرن ممن فوقهن". الزجاج
وقوله تعالى: يسبحون بحمد ربهم قيل: معناه: يقولون سبحان الله، وقيل معناه: يصلون لربهم، وقوله تعالى: ويستغفرون لمن في الأرض ، قالت فرقة: هذا منسوخ بقوله تعالى في آية أخرى: ويستغفرون للذين آمنوا .
[ ص: 501 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قول ضعيف; لأن النسخ لا يتصور في الأخبار.
وقال ما معناه: إن ظاهر الآية العموم، ومعناها الخصوص في المؤمنين، فكأنه قال: ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين، إذ الكفار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقالت فرقة: بل هي على عمومها، لكن السدي ليس بطلب غفران الله تعالى للكفرة على أن يبقوا كفرة، وإنما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدي إلى الغفران لهم، وكأن الملائكة تقول: اللهم، اهد أهل الأرض واغفر لهم، ويؤيد هذا التأويل تأكيده صفة الغفران والرحمة لنفسه بالاستفتاح، وذلك قوله تعالى: استغفار الملائكة ألا إن الله هو الغفور الرحيم ، أي لما كان الاستغفار لجميع من في الأرض يبعد أن يجاب رجى عز وجل بأن استفتح الكلام تهيئة لنفس السامع، فقال تعالى: ألا إن الله هو الذي يطلب هذا منه إذ هذه أوصافه، وهو سبحانه أهل المغفرة.