وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت : عطف على ما قبله من قوله - عز وجل -: وإذ قال إبراهيم ؛ على أحد الطريقين المذكورين في "وإذ جعلنا"؛ وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية؛ لاستحضار صورتها العجيبة المنبئة عن المعجزة الباهرة. والقواعد: جمع "قاعدة"؛ وهي الأساس؛ صفة غالبة من "القعود"؛ بمعنى: "الثبات"؛ ولعله مجاز من مقابل "القيام"؛ ومنه: "قعدك الله". ورفعها: البناء عليها؛ لأنه ينقلها من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع؛ والمرتفع حقيقة - وإن كان هو الذي بني عليها - لكنهما لما التأما صارا شيئا واحدا؛ فكأنها نمت وارتفعت؛ وقيل: المراد بها سافات البناء؛ فإن كل ساف قاعدة لما يبنى عليها؛ وبرفعها بناء بعضها على بعض؛ وقيل: المراد برفعها رفع مكانة البيت؛ وإظهار شرفه؛ ودعاء الناس إلى حجه؛ وفي إبهامها أولا؛ ثم تبيينها من تفخيم شأنها ما لا يخفى؛ وقيل: المعنى: وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت؛ واستوطأ؛ يعني: يجعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء؛ روي أن الله - عز وجل - أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة؛ له بابان من زمرد؛ شرقي؛ وغربي؛ وقال لآدم: أهبطت لك ما يطاف به؛ كما يطاف حول عرشي؛ فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا؛ وتلقته الملائكة؛ فقالوا: بر حجك يا آدم؛ لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام؛ وحج آدم - عليه السلام - أربعين حجة؛ من أرض الهند إلى مكة؛ على رجليه؛ فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة؛ فهو البيت المعمور؛ [ ص: 160 ] وكان موضعه خاليا إلى زمن إبراهيم - عليه السلام - فأمره - سبحانه - ببنائه؛ وعرفه جبريل - عليه السلام - بمكانه؛ وقيل: بعث الله (تعالى) السكينة لتدله عليه؛ فتبعها إبراهيم - عليه السلام - حتى أتيا مكة المعظمة؛ وقيل: بعث الله (تعالى) سحابة على قدر البيت؛ وسار إبراهيم في ظلها إلى أن وافت مكة المعظمة؛ فوقفت في موضع البيت؛ فنودي أن ابن على ظلها؛ ولا تزد؛ ولا تنقص؛ وقيل: بناه من خمسة أجبل: طور سيناء؛ وطور زيتا؛ ولبنان؛ والجودي؛ وأسسه من حراء؛ وجاء جبريل - عليه السلام - بالحجر الأسود من السماء؛ وقيل: تمخض أبو قبيس فانشق عنه؛ وقد خبئ فيه في أيام الطوفان؛ وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة؛ فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود؛ وقال الفاسي - في "مثير الغرام في تاريخ البلد الحرام" -: والذي يتحصل من جملة ما قيل في عدد بناء الكعبة أنها بنيت عشر مرات؛ منها بناء الملائكة - عليهم السلام -؛ وذكره النووي في تهذيب الأسماء؛ واللغات؛ والأزرقي في تاريخه؛ وذكر أنه كان قبل خلق آدم - عليه السلام - ومنها بناء آدم - عليه السلام -؛ ذكره في دلائل النبوة؛ وروى فيه عن البيهقي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بعث الله - عز وجل - عبد الله بن عمرو بن العاص جبريل إلى آدم - عليهما السلام -؛ فقال له؛ ولحواء: ابنيا لي بيتا؛ فخط جبريل؛ وجعل آدم يحفر؛ وحواء تنقل التراب؛ حتى إذا أصاب الماء نودي من تحته: حسبك آدم؛ فلما بنياه أوحى إليه أن يطوف به؛ فقيل له: أنت أول الناس؛ وهذا أول بيت؛ وهكذا ذكره الأزرقي في تاريخه؛ وعبد الرزاق في مصنفه؛ ومنها بناء بني آدم عندما رفعت الخيمة التي عزى الله (تعالى) بها آدم - عليه السلام -؛ وكانت ضربت في موضع البيت؛ فبنى بنوه مكانها بيتا من الطين؛ والحجارة؛ فلم يزل معمورا يعمرونه هم ومن بعدهم إلى أن مسه الغرق في عهد نوح - عليه السلام -؛ ذكره الأزرقي بسنده إلى ومنها بناء وهب بن منبه؛ الخليل - عليه السلام -؛ وهو منصوص عليه في القرآن؛ مشهور فيما بين قاص ودان؛ ومنها بناء العمالقة؛ ومنها بناء جرهم؛ ذكرهما الأزرقي بسنده إلى - رضي الله عنه -؛ ومنها بناء علي بن أبي طالب قصي بن كلاب؛ ذكره في كتاب النسب؛ ومنها بناء الزبير بن بكار قريش؛ وهو مشهور؛ ومنها بناء - رضي الله عنهما -؛ ومنها بناء عبد الله بن الزبير وما كان ذلك بناء لكلها؛ بل لجدار من جدرانها؛ وقال الحجاج بن يوسف؛ الحافظ السهيلي: إن بناءها لم يكن في الدهر إلا خمس مرات؛ الأولى: حين بناها شيث - عليه السلام -؛ انتهى؛ والله - سبحانه - أعلم.
وإسماعيل : عطف على "إبراهيم"؛ ولعل تأخيره عن المفعول للإيذان بأن الأصل في الرفع هو إبراهيم؛ وإسماعيل تبع له؛ قيل: إنه كان يناوله الحجارة وهو يبنيها؛ وقيل: كانا يبنيانه من طرفين؛ ربنا تقبل منا ؛ على إرادة القول؛ أي: يقولان؛ وقد قرئ به؛ على أنه حال منهما - عليهما السلام -؛ وقيل على أنه هو العامل في "إذ"؛ والجملة معطوفة على ما قبلها؛ والتقدير: يقولان: ربنا تقبل منا؛ إذ يرفعان؛ أي: وقت رفعهما؛ وقيل: "وإسماعيل" مبتدأ؛ خبره قول محذوف؛ وهو العامل في "ربنا تقبل منا"؛ فيكون إبراهيم هو الرافع؛ وإسماعيل هو الداعي؛ والجملة في محل النصب على الحالية؛ أي: وإذ يرفع إبراهيم القواعد؛ والحال أن إسماعيل يقول: ربنا تقبل منا. والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب؛ مع الإضافة إلى ضميرهما - عليهما السلام - لتحريك سلسلة الإجابة. وترك مفعول "تقبل"؛ مع ذكره في قوله (تعالى): ربنا وتقبل دعاء ؛ وغيره؛ من القرب والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من البناء؛ كما يعرب عنه جعل الجملة الدعائية حالية؛ إنك أنت السميع ؛ لجميع المسموعات التي من جملتها دعاؤنا؛ العليم ؛ بكل [ ص: 161 ] المعلومات التي من زمرتها نياتنا في جميع أعمالنا؛ والجملة تعليل لاستدعاء التقبل؛ لا من حيث إن كونه (تعالى) سميعا لدعائهما؛ عليما بنياتهما؛ مصحح للتقبل في الجملة؛ بل من حيث إن علمه (تعالى) بصحة نياتهما وإخلاصهما في أعمالهما مستدع له؛ بموجب الوعد؛ تفضلا. وتأكيد الجملة لغرض كمال قوة يقينهما بمضمونها؛ وقصر نعتي "السمع"؛ و"العلم" عليه (تعالى) لإظهار اختصاص دعائهما به (تعالى)؛ وانقطاع رجائهما عما سواه بالكلية؛ واعلم أن الظاهر أن أول ما جرى من الأمور المحكية هو الابتلاء؛ وما يتبعه؛ ثم دعاء البلدية والأمن؛ وما يتعلق به؛ ثم وما يتلوه؛ ثم جعله مثابة للناس؛ والأمر بتطهيره؛ ولعل تغيير الترتيب الوقوعي في الحكاية لنظم الشؤون الصادرة عن جنابه (تعالى) في سلك مستقل؛ ونظم الأمور الواقعة من جهة رفع قواعد البيت؛ إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - من الأفعال؛ والأقوال؛ في سلك آخر؛ وأما قوله (تعالى): ومن كفر ؛ إلخ.. فإنما وقع في تضاعيف الأحوال المتعلقة بإبراهيم لاقتضاء المقام؛ واستيجاب ما سبق من الكلام ذلك؛ بحيث لم يكن بد منه أصلا؛ كما أن وقوع قوله - عليه السلام -: ومن ذريتي ؛ في خلال كلامه - سبحانه - لذلك.