لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف [ ص: 554 ] عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين
لما ذكر تعالى من أدلة توحيده جملة صالحة، أيد ذلك بذكر ما جرى للأنبياء الداعين إلى توحيده مع أممهم المنكرين لذلك، وكيف أيد الله أهل التوحيد، وأهلك من عاندهم ولم ينقد لهم، وكيف اتفقت دعوة المرسلين على دين واحد ومعتقد واحد.
(59) فقال عن نوح - أول المرسلين -: لقد أرسلنا نوحا إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله وحده، حين كانوا يعبدون الأوثان فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله أي: وحدوه ما لكم من إله غيره لأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، وما سواه مخلوق مدبر، ليس له من الأمر شيء، ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب الله، فقال: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وهذا من نصحه عليه الصلاة والسلام وشفقته عليهم، حيث خاف عليهم العذاب الأبدي، والشقاء السرمدي، كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم.
(60) فلما قال لهم هذه المقالة، ردوا عليه أقبح رد. فقال الملأ من قومه أي : الرؤساء الأغنياء المتبوعون ، الذين قد جرت العادة باستكبارهم على الحق، وعدم انقيادهم للرسل ، إنا لنراك في ضلال مبين فلم يكفهم - قبحهم الله - أنهم لم ينقادوا له، بل استكبروا عن الانقياد له، وقدحوا فيه أعظم قدح، ونسبوه إلى الضلال، ولم يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ضلالا مبينا واضحا لكل أحد.
وهذا من أعظم أنواع المكابرة، التي لا تروج على أضعف الناس عقلا وإنما هذا الوصف منطبق على قوم نوح، الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها ونحتوها بأيديهم، من الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنهم شيئا، فنزلوها منزلة [ ص: 555 ] فاطر السماوات، وصرفوا لها ما أمكنهم من أنواع القربات، فلولا أن لهم أذهانا تقوم بها حجة الله عليهم لحكم عليهم بأن المجانين أهدى منهم، بل هم أهدى منهم وأعقل.
(61-62) فرد نوح عليهم ردا لطيفا، وترقق لهم لعلهم ينقادون له فقال: يا قوم ليس بي ضلالة أي: لست ضالا في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه، وإنما أنا هاد مهتد، بل هدايته عليه الصلاة والسلام من جنس هداية إخوانه، أولي العزم من المرسلين، أعلى أنواع الهدايات وأكملها وأتمها، وهي هداية الرسالة التامة الكاملة، ولهذا قال: ولكني رسول من رب العالمين أي: ، الذي من أعظم تربيته أن أرسل إلى عباده رسلا تأمرهم بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والعقائد الحسنة وتنهاهم عن أضدادها، ولهذا قال: ربي وربكم ورب جميع الخلق، الذي ربى جميع الخلق بأنواع التربية أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم أي: وظيفتي تبليغكم، ببيان توحيده وأوامره ونواهيه، على وجه النصيحة لكم والشفقة عليكم، وأعلم من الله ما لا تعلمون فالذي يتعين أن تطيعوني وتنقادوا لأمري إن كنتم تعلمون.
(63) أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم أي: كيف تعجبون من حالة لا ينبغي العجب منها، وهو أن جاءكم التذكير والموعظة والنصيحة، على يد رجل منكم، تعرفون حقيقته وصدقه وحاله؟ فهذه الحال من عناية الله بكم وبره وإحسانه الذي يتلقى بالقبول والشكر، وقوله: لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون أي: لينذركم العذاب الأليم، وتفعلوا الأسباب المنجية من استعمال تقوى الله ظاهرا وباطنا، وبذلك تحصل عليهم وتنزل رحمة الله الواسعة.
(64) فلم يفد فيهم، ولا نجح فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك أي: السفينة التي أمر الله نوحا عليه الصلاة والسلام بصنعتها، وأوحى إليه أن يحمل من كل صنف من الحيوانات، زوجين اثنين وأهله ومن آمن معه، فحملهم فيها ونجاهم الله بها.
وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين عن الهدى، أبصروا الحق، وأراهم الله - على يد نوح - من الآيات البينات، ما به يؤمن أولو الألباب، فسخروا منه، واستهزءوا به وكفروا.
[ ص: 556 ]