وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون
[ ص: 794 ] (50 ) يقول تعالى : وقال الملك لمن عنده ائتوني به أي : بيوسف عليه السلام بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه ، فلما جاء يوسف الرسول، وأمره بالحضور عند الملك ، امتنع عن المبادرة إلى الخروج ، حتى تتبين براءته التامة ، وهذا من صبره وعقله ورأيه التام .
فقال للرسول : ارجع إلى ربك ؛ يعني به الملك . فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن أي : اسأله ما شأنهن وقصتهن؛ فإن أمرهن ظاهر متضح إن ربي بكيدهن عليم .
فأحضرهن الملك ، وقال : ما خطبكن أي : شأنكن إذ راودتن يوسف عن نفسه فهل رأيتن منه ما يريب ؟ ! فبرأنه و قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء أي : لا قليل ولا كثير ؛ فحينئذ زال السبب الذي تبنى عليه التهمة ، ولم يبق إلا ما عند امرأة العزيز ، فـقالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أي : تمحص وتبين بعدما كنا ندخل معه من السوء والتهمة ما أوجب السجن ليوسف أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين في أقواله وبراءته .
(52 ذلك الإقرار الذي أقررت أني راودت يوسف ، ليعلم أني لم أخنه بالغيب : يحتمل أن مرادها بذلك زوجها؛ أي : ليعلم أني حين أقررت أني راودت يوسف ، أني لم أخنه بالغيب ؛ أي : لم يجر مني إلا مجرد المراودة ، ولم أفسد عليه فراشه ، ويحتمل أن المراد بذلك : ليعلم يوسف حين أقررت أني أنا الذي راودته ، وأنه صادق أني لم أخنه في حال غيبته عني . وأن الله لا يهدي كيد الخائنين فإن كل خائن ، لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه ، ولا بد أن يتبين أمره .
(53 ) ثم لما كان في هذا الكلام نوع تزكية لنفسها وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف استدركت فقالت : وما أبرئ نفسي أي : من المراودة والهم والحرص الشديد والكيد في ذلك . إن النفس لأمارة بالسوء أي : لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء ؛ أي : الفاحشة ، وسائر الذنوب ؛ فإنها مركب الشيطان ، ومنها يدخل على الإنسان إلا ما رحم ربي فنجاه من نفسه الأمارة حتى صارت نفسه مطمئنة إلى ربها ، منقادة لداعي الهدى متعاصية عن داعي الردى ؛ فذلك ليس من [ ص: 795 ] النفس ، بل من فضل الله ورحمته بعبده . إن ربي غفور رحيم أي : هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي إذا تاب وأناب ، رحيم بقبول توبته ، وتوفيقه للأعمال الصالحة .
وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة العزيز ، لا من قول يوسف؛ فإن السياق في كلامها ، ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر .
(54 ) فلما تحقق الملك والناس براءة يوسف التامة ؛ أرسل إليه الملك وقال : ائتوني به أستخلصه لنفسي أي : أجعله خصيصة لي ومقربا لدي . فأتوه به مكرما محترما ، فلما كلمه ؛ أعجبه كلامه ، وزاد موقعه عنده فقال له : إنك اليوم لدينا أي : عندنا مكين أمين أي : متمكن أمين على الأسرار .
(55 ) فقال يوسف طلبا للمصلحة العامة : اجعلني على خزائن الأرض أي : على خزائن جبايات الأرض وغلالها وكيلا حافظا مدبرا . إني حفيظ عليم أي : حفيظ للذي أتولاه ؛ فلا يضيع منه شيء في غير محله ، وضابط للداخل والخارج ، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع ، والتصرف في جميع أنواع التصرفات ، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية ، وإنما هو رغبة منه في النفع العام ، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه ؛ فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض ، فجعله الملك على خزائن الأرض وولاه إياها .
( 56 – 57 ) قال تعالى : وكذلك أي : بهذه الأسباب والمقدمات المذكورة ، مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء في عيش رغد ، ونعمة واسعة ، وجاه عريض ، نصيب برحمتنا من نشاء أي : هذا من رحمة الله بيوسف التي أصابه بها وقدرها له ، وليست مقصورة على نعمة الدنيا . فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ، ويوسف عليه السلام من سادات المحسنين ؛ فله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، ولهذا قال : ولأجر الآخرة خير -من أجر الدنيا- للذين آمنوا وكانوا يتقون أي : لمن جمع بين التقوى والإيمان ، فبالتقوى تترك الأمور المحرمة من كبائر الذنوب وصغائرها ، وبالإيمان التام يحصل تصديق القلب ، بما أمر الله بالتصديق به ، وتتبعه أعمال القلوب وأعمال الجوارح ، من الواجبات والمستحبات .