فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون
(70) فلما جهزهم بجهازهم أي : كال لكل واحد من إخوته ، ومن جملتهم أخوه هذا . جعل السقاية : وهو الإناء الذي يشرب به ، ويكال فيه في رحل أخيه ثم أوعوا متاعهم ، فلما انطلقوا ذاهبين ؛ أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون : ولعل هذا المؤذن لم يعلم بحقيقة الحال .
(71 قالوا أي : إخوة يوسف وأقبلوا عليهم لإبعاد التهمة؛ فإن السارق ليس له هم إلا البعد والانطلاق عمن سرق منه ؛ لتسلم له سرقته ، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم ، ليس لهم هم إلا إزالة التهمة التي رموا بها عنهم ، فقالوا في هذه الحال : ماذا تفقدون ولم يقولوا : ما الذي سرقنا؟ لجزمهم بأنهم برآء من السرقة .
(72 قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير أي : أجرة له على وجدانه وأنا به زعيم أي : كفيل ، وهذا يقوله المؤذن المتفقد .
(73 قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض بجميع أنواع المعاصي ، وما كنا سارقين : فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض. [ ص: 800 ] وإنما أقسموا على علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين ؛ لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما يدلهم على عفتهم وورعهم ، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم ، وهذا أبلغ في نفي التهمة من أن لو قالوا : " تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق "
(74 قالوا فما جزاؤه أي : جزاء هذا الفعل إن كنتم كاذبين بأن كان معكم ؟
(75 قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو أي : الموجود في رحله جزاؤه بأن يتملكه صاحب السرقة ، وكان هذا في دينهم ؛ أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة ؛ كان ملكا لصاحب المال المسروق ، ولهذا قالوا : كذلك نجزي الظالمين .
(76 فبدأ المفتش بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد . فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا ، استخرجها من وعاء أخيه ولم يقل : وجدها ، أو سرقها أخوه مراعاة للحقيقة الواقعة .
فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده ، على وجه لا يشعر به إخوته ، قال تعالى : كذلك كدنا ليوسف أي : يسرنا له هذا الكيد ، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم . ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك : لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق ، وإنما له عندهم جزاء آخر ؛ فلو ردت الحكومة إلى دين الملك ؛ لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده ، ولكنه جعل الحكم منهم ؛ ليتم له ما أراد . قال تعالى : نرفع درجات من نشاء بالعلم النافع ، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها ؛ كما رفعنا درجات يوسف . وفوق كل ذي علم عليم ؛ فكل عالم فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب والشهادة .
(77 ) فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا ؛ قالوا إن يسرق هذا الأخ ؛ فليس هذا غريبا منه . فقد سرق أخ له من قبل يعنون : يوسف عليه السلام ، ومقصودهم تبرئة أنفسهم ، وأن هذا وأخاه قد يصدر منهم ما يصدر من السرقة ، وهما ليسا شقيقين لنا . وفي هذا من الغض عليهما ما فيه ، ولهذا : " أسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم " أي : لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون ، بل كظم الغيظ وأسر الأمر في نفسه . و قال في نفسه : أنتم شر مكانا : حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه . والله أعلم بما تصفون : منا من وصفنا بالسرقة يعلم الله أنا براء منها. [ ص: 801 ] (78 ) ثم سلكوا معه مسلك التملق لعله يسمح لهم بأخيهم . فـ قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا أي : وإنه لا يصبر عنه ، وسيشق عليه فراقه . فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين : فأحسن إلينا وإلى أبينا بذلك .
(78 ) فـ قال يوسف معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده أي : هذا ظلم منا لو أخذنا البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده ، ولم يقل : من سرق. كل هذا تحرز من الكذب ، إنا إذا أي : إن أخذنا غير من وجد في رحله ، لظالمون : حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها .