يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين
(87 ) أي : قال يعقوب عليه السلام لبنيه : يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه أي : احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما، ولا تيأسوا من روح الله : فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه ، والإياس : يوجب له التثاقل والتباطؤ ، وأولى ما رجا العباد فضل الله وإحسانه ورحمته وروحه ، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته ، ورحمته بعيدة منهم ؛ فلا تتشبهوا بالكافرين . ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه ، فذهبوا فلما دخلوا عليه أي : على يوسف قالوا متضرعين إليه : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا أي : قد اضطررنا نحن وأهلنا وجئنا ببضاعة مزجاة أي : مدفوعة مرغوب عنها لقلتها وعدم وقوعها الموقع ، فأوف لنا الكيل أي : مع عدم وفاء العوض ، وتصدق علينا بالزيادة عن الواجب . إن الله يجزي المتصدقين بثواب الدنيا والآخرة .
(89 ) فلما انتهى الأمر ، وبلغ أشده ؛ رق لهم يوسف رقة شديدة ، وعرفهم بنفسه ، وعاتبهم .
فقال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه : أما يوسف ؛ فظاهر فعلهم فيه ، وأما أخوه ؛ فلعله -والله أعلم- قولهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، أو أن الحادث الذي فرق بينه وبين أبيه هم السبب فيه ، والأصل الموجب [ ص: 804 ] له . إذ أنتم جاهلون : وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل الجاهلين ، مع أنه لا ينبغي ولا يليق منهم .
(90 ) فعرفوا أن الذي خاطبهم هو يوسف ، فقالوا : أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا بالإيمان والتقوى والتمكين في الدنيا ، وذلك بسبب الصبر والتقوى ، فـ إنه من يتق ويصبر أي : يتقي فعل ما حرم الله ويصبر على الآلام والمصائب ، وعلى الأوامر بامتثالها. فإن الله لا يضيع أجر المحسنين : فإن هذا من الإحسان ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا .
(91 قالوا تالله لقد آثرك الله علينا أي : فضلك علينا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وأسأنا إليك غاية الإساءة ، وحرصنا على إيصال الأذى إليك ، والتبعيد لك عن أبيك ، فآثرك الله تعالى ومكنك مما تريد وإن كنا لخاطئين ، وهذا غاية الاعتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف .
(92) فقال لهم يوسف عليه السلام ، كرما وجودا : لا تثريب عليكم اليوم أي : لا أثرب عليكم ولا ألومكم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ؛ فسمح لهم سماحا تاما من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق ، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة ، وهذا نهاية الإحسان الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين .