باب المسلم يقيم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا قال الله تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة روى عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة في قوله تعالى : ابن عباس فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن قال : " يكون الرجل مؤمنا وقومه كفارا فلا دية له ولكن عتق رقبة مؤمنة " . قال : هذا محمول على الذي يسلم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا ؛ لأنه غير جائز أن يكون مراده في المؤمن في دار الإسلام إذا قتل وله أقارب كفار لأنه لا خلاف بين المسلمين أن على قاتله الدية لبيت المال ، وأن كون أقربائه كفارا لا يوجب سقوط ديته لأنهم بمنزلة الأموات حيث لا يرثونه . أبو بكر
وروى عن عطاء بن السائب أبي يحيى عن : ابن عباس فإن كان من قوم عدو لكم الآية ، قال : " كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم ، ثم يرجع إلى قومه فيكون فيهم فيصيبه المسلمون خطأ في سرية أو غزاة ، فيعتق الذي يصيبه رقبة " . قال : إذا أسلم في دار الإسلام لم تسقط ديته برجوعه إلى دار الحرب كسائر المسلمين ؛ لأن ما بينه وبين المشركين من القرابة لا تأثير له في إسقاط قيمة دمه ، كسائر أهل دار الإسلام إذا دخلوا دار الحرب بأمان ، على القاتل الدية . أبو بكر
وروي عن أبي عياض مثل ما روي عن . وقال ابن عباس : " هو المسلم يكون في المشركين فيقتله المؤمن ولا يدري ففيه عتق رقبة وليس فيه دية " . وهذا على أن يقتل قبل الهجرة إلى دار الإسلام . قتادة
وروى عن مغيرة إبراهيم : فإن كان من قوم عدو لكم قال : " هو المؤمن يقتل وقومه مشركون ليس بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد ، فعليه تحرير رقبة ، وإن كان بينهم وبين النبي عليه السلام عهد أدى ديته إلى قرابته الذين بينهم وبين النبي عليه السلام عهد " .
قال : وهذا لا معنى له ، من قبل أن أقرباءه لا يرثونه لأنهم كفار [ ص: 216 ] وهو مسلم فكيف يأخذون ديته وإن كان قومه أهل حرب وهو من أهل دار الإسلام فالدية واجبة لبيت المال كمسلم قتل في دار الإسلام ولا وارث له . وقد اختلف فقهاء الأمصار أبو بكر ، فقال فيمن قتل في دار الحرب وهو مؤمن قبل أن يهاجر أبو حنيفة في الرواية المشهورة وأبو يوسف في الحربي يسلم . فيقتله مسلم مستأمن قبل أن يخرج فلا شيء عليه إلا الكفارة في الخطإ ، وإن كانا مستأمنين دخلا دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فعليه الدية في العمد والخطإ والكفارة في الخطإ خاصة ، وإن كانا أسيرين فلا شيء على القاتل إلا الكفارة في الخطإ ، في قول ومحمد . وقال أبي حنيفة أبو يوسف : " عليه الدية في العمد والخطإ " . ومحمد
وروى عن بشر بن الوليد في الحربي يسلم في دار الحرب فيقتله رجل مسلم قبل أن يخرج إلينا أن عليه الدية استحسانا ، ولو وقع في بئر حفرها أو وقع عليه ميزاب عمله لم يضمن شيئا . وهذا خلاف المشهور من قوله وخلاف القياس أيضا . أبي يوسف
وقال : وإذا أسلم في دار الحرب فقتل قبل أن يخرج إلينا فعلى قاتله الدية والكفارة إن كان خطأ قال : وقوله تعالى : مالك فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة إنما كان في صلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ؛ لأن من لم يهاجر لم يورث ؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة ؛ قال الله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فلم يكن لمن لم يهاجر ورثة يستحقون ميراثه ، فلم تجب الدية ؛ ثم نسخ ذلك بقوله : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله
وقال : " من أقام في أرض العدو وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التحول إلى المسلمين فأحكامه أحكام المشركين ، وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم يحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب في ماله ونفسه " . وقال الحسن بن صالح : " إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام . الحسن
وقال : " إذا قتل المسلم مسلما في دار الحرب في الغارة أو الحرب وهو لا يعلمه مسلما فلا عقل فيه ولا قود وعليه الكفارة ، وسواء كان المسلم أسيرا أو مستأمنا أو رجلا أسلم هناك ؛ وإن علمه مسلما فقتله فعليه القود . قال الشافعي : لا يخلو قوله تعالى : أبو بكر فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة من أن يكون المراد به الحربي الذي يسلم فيقتل قبل أن يهاجر على ما قاله أصحابنا ، أو المسلم الذي له قرابات من أهل الحرب ؛ لأن قوله تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم يحتمل المعنيين جميعا بأن يكون من [ ص: 217 ] أهل دار الحرب وبأن يكون ذا نسب من أهل الحرب ، فلو خلينا والظاهر لأسقطنا دية من قتل في دار الإسلام من المسلمين إذا كان ذا قرابة من أهل الحرب لاقتضاء الظاهر ذلك ، فلما اتفق المسلمون على أن كونه ذا قرابة من أهل الحرب لا يسقط حكم دمه في إيجاب الدية أو القود إذا قتل في دار الإسلام دل ذلك على أن المراد : من كان مسلما من أهل دار الحرب لم يهاجر إلى دار الإسلام ، فيكون الواجب على قاتله خطأ الكفارة دون الدية ؛ لأن الله تعالى إنما أوجب فيه الكفارة ولم يوجب الدية ؛ وغير جائز أن يزاد في النص إلا بنص مثله ؛ إذ كانت الزيادة في النص توجب النسخ .
فإن قيل : هلا أوجبت الدية بقوله تعالى : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله قيل له : غير جائز أن يكون هذا المؤمن مرادا بالمؤمن المذكور في أول الآية ؛ لأن فيها إيجاب الدية والرقبة ، فيمتنع أن نعطفه عليه ونشرط كونه من أهل دار الحرب ونوجب فيه الرقبة وهو قد أوجبها بديا مع الدية في ابتداء الخطاب .
وأيضا فإن قوله : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن استئناف كلام لم يتقدم له ذكر في الخطاب ؛ لأنه لا يجوز أن يقال : " أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فأعطه " هذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم ، فثبت أن هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في أول الخطاب . ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا هناد بن السري عن أبو معاوية إسماعيل عن قيس عن قال : جرير بن عبد الله خثعم ، فاعتصم ناس منهم بالسجود ، فأسرع فيهم القتل ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا : يا رسول الله لم ؟ قال : لا تراءى ناراهما . بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى
وحدثنا قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع محمد بن علي بن شعيب قال : حدثنا ابن عائشة قال : حدثنا عن حماد بن سلمة الحجاج عن إسماعيل عن قيس عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جرير بن عبد الله ؛ قال من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة أو قال : لا ذمة له ابن عائشة : هو الرجل يسلم فيقيم معهم فيغزون ، فإن أصيب فلا دية له لقوله عليه السلام فقد برئت منه الذمة . وقوله : " أنا بريء منه " يدل على أن لا قيمة لدمه كأهل الحرب الذين لا ذمة لهم ، ولما أمر لهم بنصف العقل في الحديث الأول كان ذلك على أحد وجهين : إما أن يكون الموضع الذي قتل فيه كان مشكوكا في أنه من دار الحرب أو من دار الإسلام ، أو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تبرع [ ص: 218 ] به ؛ لأنه لو كان جميعه واجبا لما اقتصر على نصفه .
وحدثنا قال : حدثنا عبد الباقي قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل شيبان قال : حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة قال : حدثنا حميد بن هلال قال : أتاني وصاحب لي ، فانطلقنا حتى أتينا أبو العالية بشر بن عاصم الليثي ، فقال حدث هذين فقال أبو العالية بشر : حدثني عقبة بن مالك الليثي وكان من رهطه قال : . بعث رسول الله سرية فأغارت على قوم ، فشذ رجل من القوم واتبعه رجل من السرية ومعه السيف شاهره ، فقال الشاذ : إني مسلم ، فضربه فقتله ، فنما الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا ، فقال القاتل : يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا تعرف المساءة في وجهه ، وقال : إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا ثلاث مرات
قال : فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان المقتول ولم يوجب على قاتله الدية ؛ لأنه كان حربيا لم يهاجر بعد إسلامه . وحدثنا أبو بكر محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود الحسن بن علي قالا : حدثنا وعثمان بن أبي شيبة يعلى بن عبيد عن عن الأعمش أبي ظبيان قال : حدثنا قال : أسامة بن زيد . بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا ، فأدركنا رجلا ، فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله ، فضربناه حتى قتلناه ، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ فقلت : يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح ، قال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا ؟ من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ فما زال يقولها حتى أني وددت أني لم أسلم إلا يومئذ
وهذا الحديث أيضا يدل على ما قلنا لأنه لم يوجب عليه شيئا . وهو حجة على في إيجابه القود على الشافعي ؛ لأن النبي عليه السلام قد أخبر بإسلام هذا الرجل ولم يوجب على قاتل المسلم في دار الحرب إذا علم أنه مسلم أسامة دية ولا قودا . وأما قول إن قوله تعالى : مالك فإن كان من قوم عدو لكم إنما كان حكما لمن أسلم ولم يهاجر وهو منسوخ بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فإنه دعوى لنسخ حكم ثابت في القرآن بلا دلالة ، وليس في نسخ التوارث بالهجرة وإثباته بالرحم ما يوجب نسخ هذا الحكم ، بل هو حكم ثابت بنفسه لا تعلق له بالميراث .
وعلى أنه في حال ما كان التوارث بالهجرة قد كان من لم يهاجر من القرابات يرث بعضهم بعضا ، وإنما كانت الهجرة قاطعة للميراث بين المهاجر وبين من لم يهاجر ، فأما من لم يهاجر فقد كانوا يتوارثون بأسباب أخر ، فلو كان الأمر على ما قاله لوجب أن تكون دية واجبة لمن لم يهاجر من أقربائه ؛ لأنه معلوم أنه [ ص: 219 ] لم يكن ميراث من لم يهاجر مهملا لا مستحق له ، فلما لم يوجب الله تعالى له دية قبل الهجرة لا للمهاجرين ولا لغيرهم علمنا أنه كان مبقى على حكم الحرب لا قيمة لدمه ؛ وقوله تعالى : مالك فإن كان من قوم عدو لكم يفيد أنه ما لم يهاجر فهو من أهل دار الحرب باق على حكمه الأول في أن لا قيمة لدمه وإن كان دمه محظورا ؛ إذ كانت النسبة إليهم قد تصح بأن يكون من بلدهم وإن لم يكن بينه وبينهم رحم بعد أن يجمعهم في الوطن بلد أو قرية أو صقع ، فنسبه الله إليهم بعد الإسلام ؛ إذ كان من أهل ديارهم ، ودل ذلك على أن لا قيمة لدمه .
وأما قول في أن الحسن بن صالح فهو مرتد ، فإنه خلاف الكتاب والإجماع ؛ لأن الله تعالى قال : المسلم إذا لحق بدار الحرب والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فجعلهم مؤمنين مع إقامتهم في دار الحرب بعد إسلامهم ، وأوجب علينا نصرتهم بقوله : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ولو كان ما قال صحيحا لوجب أن لا يجوز للتجار دخول دار الحرب بأمان وأن يكونوا بذلك مرتدين ، وليس هذا قول أحد . فإن احتج محتج بما حدثنا قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع إسماعيل بن الفضل وعبدان المروزي قالا : حدثنا قال : حدثنا قتيبة بن سعيد حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن عن الشعبي قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : جرير فإن هذا محمول عندنا على أنه قد لحق بهم مرتدا عن الإسلام ؛ لأن إباق العبد لا يبيح دمه ، واللحاق بدار الحرب كدخول التاجر إليها بأمان فلا يبيح دمه . إذا أبق العبد إلى المشركين فقد حل دمه
وأما قول في أن من الشافعي فلا شيء عليه ، وإن علم بإسلامه أقيد به ؛ فإنه متناقض من قبل أنه إذا ثبت أن لدمه قيمة لم يختلف حكم العمد والخطإ في وجوب بدله في العمد وديته في الخطإ ، فإذا لم يجب في الخطإ شيء كذلك حكم العمد فيه . ولما ثبت بما قدمنا أنه لا قيمة لدم المقيم في دار الحرب بعد إسلامه قبل الهجرة إلينا وكان مبقى على حكم الحرب وإن كان محظور الدم أجروه أصحابنا مجرى الحربي في إسقاط الضمان عن متلف ماله ؛ لأن دمه أعظم حرمة من ماله ، ولا ضمان على متلف نفسه . فماله أحرى أن لا يجب فيه ضمان ، وأن يكون كمال الحربي من هذا الوجه ؛ ولذلك أجاز أصاب مسلما في دار الحرب وهو لا يعلمه مسلما مبايعته على سبيل ما يجوز مبايعة الحربي من بيع الدرهم بالدرهمين في دار الحرب . وأما أبو حنيفة فإن الأسير في دار الحرب أجراه مجرى الذي أسلم هناك قبل أن يهاجر وذلك لأن [ ص: 220 ] إقامته هناك لا على وجه الأمان وهو مقهور مغلوب ، فلما استويا من هذا الوجه استوى حكمهما في سقوط الضمان عن قاتلهما ؛ والله أعلم . أبا حنيفة