[ ص: 306 ] - 22 - : ترجمة القرآن
يتوقف نجاح الدعوة إلى حد كبير على التقارب بين الداعية وأمته . فالداعية الذي ينبت من صميم البيئة يكون على دراية كاملة بمسالك الغواية ودروب الجهالة التي يغشاها قومه . يعرف نفوسهم والأبواب التي يطرقها منها حتى تتفتح لتعاليم دعوته ، وتهتدي بهداها ، والتخاطب بينهما بلسان واحد رمز للتجانس الاجتماعي في جميع صوره ، وفي هذا يقول الله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم .
وقد نزل القرآن الكريم على الرسول العربي بلسان عربي مبين ، فكانت هذه الظاهرة ضرورة اجتماعية لنجاح رسالة الإسلام ، ومنذ ذلك الحين أصبحت اللغة العربية جزءا من كيان الإسلام ، وأساسا للتخاطب في إبلاغ دعوته . وكانت بعثة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- إلى الإنسانية كلها . وأعلن ذلك القرآن في غير موضع : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا . وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا .
ونشأت نواة الدولة الإسلامية في جزيرة العرب ، ولا شك أن اللغة تحيا بحياة أمتها وتموت بموتها ، فكانت نشأة الدولة الإسلامية على هذا النحو حياة للغة العرب ، فالقرآن وحي الإسلام ، والإسلام دين الله المفروض ، ولن يتأتى معرفة أصوله وأسسه إلا إذا فهم القرآن بلغته ، فأخذت موجة الفتح الإسلامي تمتد إلى الألسنة الأخرى الأعجمية ، فتعربها بالإسلام ، وصار لزاما على كل من يدخل في حوزة هذا الدين الجديد أن يستجيب له في لغة كتابه باطنا وظاهرا ، حتى يستطيع القيام [ ص: 307 ] بواجباته ، ولم يكن هناك حاجة إلى ترجمة القرآن له ما دام القرآن قد ترجم لسانه وعربه إيمانا وتسليما .
معنى الترجمة
والترجمة تطلق على معنيين :
أولهما : الترجمة الحرفية : وهي نقل ألفاظ من لغة إلى نظائرها من اللغة الأخرى بحيث يكون النظم موافقا للنظم ، والترتيب موافقا للترتيب .
ثانيهما : الترجمة التفسيرية أو المعنوية : وهي بيان معنى الكلام بلغة أخرى من غير تقييد بترتيب كلمات الأصل أو مراعاة لنظمه .
والذين على بصر باللغات يعرفون أن الترجمة الحرفية بالمعنى المذكور لا يمكن حصولها مع المحافظة على سياق الأصل والإحاطة بجميع معناه . فإن خواص كل لغة تختلف عن الأخرى في ترتيب أجزاء الجملة . فالجملة الفعلية في اللغة العربية تبدأ بالفعل فالفاعل في الاستفهام وغيره ، والمضاف مقدم على المضاف إليه ، والموصوف مقدم على الصفة ، إلا إذا أريد الإضافة على وجه التشبيه مثلا : كـ " لجين الماء " ، أو كان الكلام من إضافة الصفة إلى معمولها : كـ " عظيم الأمل " وليس الشأن كذلك في سائر اللغات .
والتعبير العربي يحمل في طياته من أسرار اللغة ما لا يمكن أن يحل محله تعبير آخر بلغة أخرى ، فإن الألفاظ في الترجمة لا تكون متساوية المعنى من كل وجه فضلا عن التراكيب .
والقرآن الكريم في قمة العربية فصاحة وبلاغة ، وله من خواص التراكيب وأسرار الأساليب ولطائف المعاني ، وسائر آيات إعجازه ما لا يستقل بأدائه لسان .
"