فوائد معرفة سبب النزول
لمعرفة سبب النزول فوائد أهمها :
[ ص: 75 ] أ- بيان الحكمة التي دعت إلى تشريع حكم من الأحكام وإدراك مراعاة الشرع للمصالح العامة في علاج الحوادث رحمة بالأمة .
ب- تخصيص حكم ما نزل إن كان بصيغة العموم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، وهي مسألة خلافية سيأتي لها مزيد من الإيضاح ، وقد يمثل لهذا بقوله تعالى : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ، فقد روي قال لبوابه : اذهب يا مروان رافع إلى فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل يعذب لنعذبن أجمعون ، فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ، إنما نزلت في أهل الكتاب . ثم تلا : ابن عباس وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب 2 . . . الآية . قال : سألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكتموه إياه وأخذوا بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما سألهم عنه “ . ابن عباس أن
جـ- إذا كان لفظ ما نزل عاما وورد دليل على تخصيصه فمعرفة السبب تقصر التخصيص على ما عدا صورته ، ولا يصح إخراجها ، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي ، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد لأنه ظني ، وهذا هو ما عليه الجمهور وقد يمثل لهذا بقوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين . . فإن هذه الآية نزلت في خاصة ، أو فيها وفي سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- " عن عائشة في قوله : ابن عباس إن الذين يرمون [ ص: 76 ] المحصنات . . . الآية : نزلت في خاصة “ ، وعن عائشة في هذه الآية أيضا : " هذه في ابن عباس وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجعل الله لمن فعل ذلك توبة ، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- التوبة ، ثم قرأ : عائشة والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم . وعلى هذا فإن قبول توبة القاذف وإن كان مخصصا لعموم قوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات ، لا يتناول بالتخصيص من قذف ، أو قذف سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن هذا لا توبة له ، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي . عائشة
د- ومعرفة سبب النزول خير سبيل لفهم معاني القرآن ، وكشف الغموض الذي يكتنف بعض الآيات في تفسيرها ما لم يعرف سبب نزولها ، قال : " لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها " وقال الواحدي ابن دقيق العيد : " بيان " وقال سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن ابن تيمية : " معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب “ ، ومن أمثلة ذلك : ما أشكل على في فهم الآية الآنفة الذكر : مروان بن الحكم لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم حتى أورد له سبب النزول . ابن عباس
ومثله آية : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ ص: 77 ] فإن ظاهر لفظ الآية لا يقتضي أن السعي فرض ، لأن رفع الجناح يفيد الإباحة لا الوجوب ، وذهب بعضهم إلى هذا تمسكا بالظاهر ، وقد ردت على عائشة في فهمه ذلك بما ورد في سبب نزولها ، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية ، حيث كان على عروة بن الزبير الصفا أساف ، وعلى المروة نائلة ، وهما صنمان ، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما : " أن عائشة قال لها : أرأيت قول الله : عروة إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما فما أرى على أحد جناحا أن لا يطوف بهما ؟ فقالت : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إنها لو كانت على ما أولتها كانت : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، ولكنها إنما أنزلت ، أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها ، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف عائشة بالصفا والمروة في الجاهلية ، فأنزل الله : إن الصفا والمروة من شعائر الله . . . الآية . قالت : ثم قد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطواف بهما ، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما “ . عائشة عن
هـ- ويوضح سبب النزول من نزلت فيه الآية حتى لا تحمل على غيره بدافع الخصومة والتحامل ، كالذي ذكر في قوله تعالى : والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ، فقد أراد " " أن يستخلف " معاوية يزيد " وكتب إلى " " عامله على مروان المدينة بذلك ، فجمع الناس وخطبهم ودعاهم إلى بيعة " يزيد " فأبى أن يبايع ، فأراده " عبد الرحمن بن أبي بكر " بسوء لولا أن دخل بيت مروان ، وقال عائشة : إن هذا الذي أنزل الله فيه : مروان
[ ص: 78 ] والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي فردت عليه وبينت له سبب نزولها ، " عن عائشة قال : كان يوسف بن ماهك على مروان الحجاز ، استعمله ، فخطب فجعل يذكر معاوية بن أبي سفيان لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال يزيد بن معاوية شيئا ، فقال : خذوه ، فدخل بيت عبد الرحمن بن أبي بكر فلم يقدروا عليه ، فقال عائشة : إن هذا أنزل فيه : مروان والذي قال لوالديه أف لكما فقالت : " ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري “ ، وفي بعض الروايات : " إن عائشة لما طلب البيعة مروان ليزيد قال : سنة أبي بكر ، فقال وعمر : سنة عبد الرحمن هرقل وقيصر ، فقال : هذا الذي قال الله فيه : مروان " والذي قال لوالديه أف لكما " . . . الآية ، فبلغ ذلك فقالت : كذب عائشة ، والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته “ . . " مروان