[ ص: 143 ] تحسين الرسم العثماني
كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط والشكل ، اعتمادا على السليقة العربية السليمة التي لا تحتاج إلى الشكل بالحركات ولا إلى الإعجام بالنقط ، فلما تطرق إلى اللسان العربي الفساد بكثرة الاختلاط أحس أولو الأمر بضرورة تحسين كتابة المصحف بالشكل والنقط وغيرهما مما يساعد على القراءة الصحيحة .
واختلف العلماء في أول جهد بذل في ذلك السبيل .
فيرى كثير منهم أن أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي الذي ينسب إليه وضع ضوابط للعربية بأمر علي بن أبي طالب ، ويروى في ذلك أنه سمع قارئا يقرأ قوله تعالى : أن الله بريء من المشركين ورسوله ، فقرأها بجر اللام من كلمة " رسوله " فأفزع هذا اللحن وقال : عز وجه الله أن يبرأ من رسوله ، ثم ذهب إلى أبا الأسود زياد والي البصرة وقال له : قد أجبتك إلى ما سألت ، وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله ، فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث ، وهنا جد جده ، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف ، وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله ، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف ، وجعل علامة السكون نقطتين .
ويذكر السيوطي في " الإتقان " أن أول من فعل ذلك بأمر أبا الأسود الدؤلي لا بأمر عبد الملك بن مروان زياد ، حيث ظل الناس يقرءون في مصحف بضعا وأربعين سنة . حتى خلافة عثمان حين كثرت التصحيفات وانتشرت في عبد الملك العراق ففكر الولاة في النقط والتشكيل .
وهناك روايات أخرى تنسب هذا الفعل إلى آخرين . منهم : ، الحسن البصري ، ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم الليثي ، هو الذي اشتهر عنه ذلك ، وربما كان للآخرين المذكورين جهود أخرى بذلت في تحسين الرسم وتيسيره . وأبو الأسود الدؤلي
[ ص: 144 ] وقد تدرج تحسين رسم المصحف ، فكان الشكل في الصدر الأول نقطا ، فالفتحة نقطة على أول الحرف ، والضمة على آخره ، والكسرة تحت أوله .
ثم كان الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف ، وهو الذي أخرجه الخليل ، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف ، والكسر كذلك تحته ، والضم واو صغرى فوقه ، والتنوين زيادة مثلها ، وتكتب الألف المحذوفة والمبدل منها في محلها حمراء ، والهمزة المحذوفة تكتب همزة بلا حرف حمراء أيضا ، وعلى النون والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب حمراء ، وقبل الحلق سكون ، وتعرى عند الإدغام والإخفاء ، ويسكن كل مسكن ، ويعرى المدغم ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء فيكتب عليها السكون نحو " فرطت “ . .
ثم كان القرن الثالث الهجري فجاد رسم المصحف وتحسن ، وتنافس الناس في اختيار الخطوط الجميلة وابتكار العلامات المميزة ، فجعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس ، ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها . على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة .
ثم تدرج الناس بعد ذلك في وضع أسماء السور وعدد الآيات ، والرموز التي تشير إلى رءوس الآي ، وعلامات الوقف اللازم " م " والممنوع " لا " والجائز جوازا مستوي الطرفين " ج " والجائز مع كون الوصل أولى " صلى " والجائز مع كون الوقف أولى " قلى " وتعانق الوقف بحيث إذا وقف على أحد الموضعين لا يصح الوقف على الآخر ( . . . . ) والتجزئة ، والتحزيب ، إلى غير ذلك من وجوه التحسين .
وكان العلماء في بداية الأمر يكرهون ذلك خوفا من وقوع زيادة في القرآن مستندين إلى قول : " جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء " ، ويفرق بعضهم بين النقط الجائز . والأعشار والفواتح التي لا تجوز . قال ابن مسعود الحليمي : " تكره كتابة الأعشار والأخماس ، وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقول : ابن مسعود
[ ص: 145 ] " جردوا القرآن " وأما النقط فيجوز ، لأنه ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا . وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها " .
ثم انتهى الأمر في ذلك إلى الإباحة والاستحباب ، أخرج ابن أبي داود عن الحسن أنهما قالا : " لا بأس بنقط المصاحف " ، وأخرج عن وابن سيرين ربيعة بن أبي عبد الرحمن : أنه قال : " لا بأس بشكله " ، وقال النووي : " نقط المصحف وشكله مستحب لأنه صيانة له من اللحن والتحريف “ .
وقد وصلت العناية بتحسين رسم المصحف اليوم ذروتها في الخط العربي .
"