التجويد وآداب التلاوة
كان -رضي الله عنه- قارئا ندي الصوت ، يجيد تلاوة القرآن ، وللتلاوة الجيدة أثرها لدى القارئ والمستمع في فهم معاني القرآن وإدراك أسرار إعجازه ، في خشوع وضراعة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيه : عبد الله بن مسعود يعني " من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد " ، وذلك لما أعطيه من حسن الصوت وتجويد القرآن . ابن مسعود
[ ص: 178 ] وللعلماء قديما وحديثا عناية بتلاوة القرآن حتى يكون النطق صحيحا ، ويعرف هذا عندهم بتجويد القرآن ، وأفرده جماعة بالتصنيف نظما ونثرا ، وعرفوا التجويد بأنه : " إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها ، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله ، وتلطيف النطق به على كمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف " .
والتجويد وإن كان صناعة علمية لها قواعدها التي تعتمد على إخراج الحروف من مخارجها مع مراعاة صلة كل حرف بما قبله وما بعده في كيفية الأداء فإنه لا يكتسب بالدراسة بقدر ما يكتسب بالممارسة والمران ومحاكاة من يجيد القراءة ، قال ابن الجزري : " ولا أعلم لبلوغ النهاية في التجويد مثل رياضة الألسن والتكرار على اللفظ المتلقى من فم المحسن ، وقاعدته ترجع إلى كيفية الوقف والإمالة والإدغام وإحكام الهمز والترقيق والتفخيم ومخارج الحروف “ .
وقد عد العلماء القراءة بغير تجويد لحنا ، واللحن : خلل يطرأ على الألفاظ ، ومنه الجلي والخفي ، فالجلي : هو الذي يخل باللفظ إخلالا ظاهرا يشترك في معرفته علماء القراءة وغيرهم ، وذلك كالخطأ الإعرابي أو الصرفي ، والخفي : هو الذي يخل باللفظ إخلالا يختص بمعرفته علماء القراءة وأئمة الأداء الذين تلقوه من أفواه العلماء وضبطوه من ألفاظ الأداء . .
والمبالغة في التجويد إلى حد الإفراط والتكلف ليست أقل من اللحن ، لأنها زيادة للحروف في غير موضعها ، كأولئك الذين يقرءون القرآن اليوم بنغم شجي يتردد فيه الصوت تردد الوقع الموسيقي والعزف على آلات الطرب ، وقد نبه العلماء على ما ابتدعه الناس من ذلك بما يسمى : بـ : الترعيد ، أو الترقيص ، أو التطريب ، أو التحزين ، أو الترديد ، ونقل ذلك السيوطي في الإتقان ، وعبر عنه الرافعي في " إعجاز القرآن " بقوله : " ومما ابتدع في القراءة والأداء هذا التلحين الذي بقي إلى اليوم يتناقله المفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم ، ويقرءون به على ما يشبه الإيقاع ، وهو الغناء! . . . ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم " الترعيد " وهو أن يرعد القارئ صوته ، قالوا : كأنه يرعد من البرد أو الألم . . و " الترقيص " وهو [ ص: 179 ] أن يروم السكوت على الساكن ثم ينقر مع الحركة كأنه في عدو أو هرولة ، و " التطريب " وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به فيمد في سير مواضع المد ، ويزيد في المد إن أصاب موضعه ، و " التحزين " وهو أن يأتي القراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع ، ثم " الترديد " وهو رد الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن وافد على وجه من تلك الوجوه .
وإنما كانت القراءة تحقيقا وهو إعطاء كل حرف حقه على مقتضى ما قرره العلماء مع ترتيل وتؤدة أو حدرا وهو إدراج القراءة وسرعتها مع مراعاة شروط الأداء الصحيحة أو تدويرا وهو التوسط بين التحقيق والحدر " .
وقراءة القرآن سنة من سنن الإسلام ، والإكثار منها مستحب حتى يكون المسلم حي القلب مستنير الفؤاد بما يقرأ من كتاب الله ، عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عمر . " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار “
والتلاوة مع إخلاص النية وحسن القصد عبادة يؤجر عليها المسلم ، عن : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : ابن مسعود ، وجاء في حديث " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها “ : أبي أمامة . " اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه “
وكان السلف رضوان الله عليهم يحافظون على تلاوة القرآن ، ومنهم من كان يختم في اليوم والليلة ، ومنهم من كان يختم في أكثر ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ القرآن في شهر ، قلت : إني أجد قوة ، قال : اقرأه في عشر ، قلت : إني أجد قوة ، قال : اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك “ عبد الله بن عمرو . عن
وحذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نسيان القرآن ، فقال : . " تعاهدوا القرآن ، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها “
[ ص: 180 ] والأمر في كثرة القراءة وختم القرآن يختلف باختلاف الأشخاص لاختلاف قدراتهم ، وتفاوت المصالح العامة التي تناط بهم . قال النووي في " الأذكار " : " المختار أن ذلك مختلف باختلاف الأشخاص ، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ ، وكذلك من كان مشغولا بنشر العلم أو فصل الحكومات أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة ، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ، ولا فوات كماله ، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة في القراءة " .
آداب التلاوة
ويستحب لقارئ القرآن :
1- أن يكون على وضوء ، لأن ذلك من أفضل الذكر . وإن كانت القراءة للمحدث جائزة .
2- وأن يكون في مكان نظيف طاهر ، مراعاة لجلال القراءة .
3- وأن يقرأ بخشوع وسكينة ووقار .
4- وأن يستاك قبل البدء في القراءة .
5- وأن يتعوذ في بدايتها ، لقوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، وأوجب الاستعاذة بعض العلماء .
6- وأن يحافظ على البسملة في مطلع كل سورة سوى " براءة " لأنها آية على الرأي الراجح .
7- وأن تكون قراءته ترتيلا ، يعطي الحروف حقها من المد والإدغام ، قال تعالى : ورتل القرآن ترتيلا ، أنه سئل عن قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : " كانت مدا ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم يمد الله ، [ ص: 181 ] ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم “ أنس ، وعن وعن : " أن رجلا قال له : إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة ، فقال : أهذا كهذ الشعر ؟ ، إن قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع “ ، وقال ابن مسعود الزركشي في " البرهان " : " كمال الترتيل تفخيم ألفاظه ، والإبانة عن حروفه ، وأن لا يدغم حرف في حرف ، وقيل : هذا أقله ، وأكمله أن يقرأه على منازله ، فإن قرأ تهديدا لفظ به لفظ التهديد ، أو تعظيما لفظ به على التعظيم " .
8- وأن يتدبر ما يقرأ ، لأن هذا هو المقصود الأعظم ، والمطلوب الأهم . وذلك بأن يشغل قلبه بالتفكير في معنى ما يقرأ ، ويتجاوب مع كل آية بمشاعره وعواطفه ، دعاء واستغفارا ، ورحمة ، وعذابا . قال تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ، وعن قال : حذيفة . " صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة ، فافتتح البقرة فقرأها ، ثم النساء فقرأها ، ثم آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلا ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ “
9- أن يتأثر بآيات القرآن وعدا ووعيدا ، فيحزن ويبكي لآيات الوعيد فزعا ورهبة وهولا ، قال تعالى : ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ، وفي حديث قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ علي القرآن " . قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : " نعم . . إني أحب أن أسمعه من غيري " ، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : ابن مسعود فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، قال : " حسبك الآن . فالتفت فإذا عيناه تذرفان “ ، قال في شرح المهذب : وطريقه في تحصيل البكاء أن يتأمل ما يقرأ من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ، ثم يفكر في [ ص: 182 ] تقصيره فيها فإن لم يحضره عند ذلك حزن وبكاء فليبك على فقد ذلك فإنه من المصائب .
وروى عن ابن ماجه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنس . " يخرج قوم في آخر الزمان -أو في هذه الأمة- يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم -أو حلوقهم- إذا رأيتموهم -أو إذا لقيتموهم- فاقتلوهم "
10- وأن يحسن صوته بالقراءة ، فإن القرآن زينة للصوت ، والصوت الحسن أوقع في النفس ، وفي الحديث : . " زينوا القرآن بأصواتكم “
11- وأن يجهر بالقراءة حيث يكون الجهر أفضل . لما فيه من إيقاظ القلب ، وتجديد النشاط ، وانصراف السمع إلى القراءة ، وتعدي نفعها إلى السامعين ، واستجماع المشاعر للتفكير والنظر والتدبر . أما إذا خشي بذلك الرياء ، أو كان فيه أذى للناس كإيذاء المصلين فإن الإسرار يكون أفضل ، قال صلى الله عليه وسلم : . " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به “
12- واختلفوا في القراءة في المصحف والقراءة على ظهر قلب ، أيهما أفضل ؟ على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن القراءة في المصحف أفضل ، لأن النظر فيه عبادة ، فتجتمع القراءة والنظر .
وثانيها : أن القراءة على ظهر القلب أفضل ، لأنها أدعى إلى حسن التدبر ، وهو الذي اختاره العز بن عبد السلام وقال : " قيل : القراءة في المصحف أفضل ، لأنه يجمع فعل الجارحتين : وهما اللسان والعين ، والأجر على قدر المشقة ، وهذا باطل ، لأن المقصود من القراءة التدبر ، لقوله تعالى : ليدبروا آياته ، والعادة تشهد أن النظر في المصحف يخل بهذا المقصود فكان مرجوحا " .
[ ص: 183 ] وثالثها : أن الأمر يختلف باختلاف الأحوال ، فإن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له من المصحف ، فالقراءة من الحفظ أفضل ، وإن استويا فمن المصحف أفضل . "