123 - قوله: (ص): "والواضعون للحديث أصناف".
قلت: لم يبين ذلك وسائقهم إلى ذلك والهاجم عليه منهم.
[ ص: 851 ] أولا: الزنادقة حملهم على وضعها الاستخفاف بالدين كمحمد بن سعيد المصلوب ، والحارث الكذاب الذي ادعى النبوة، والمغيرة بن سعيد الكوفي وغيرهم.
حتى قال : وضعت حماد بن زيد الزنادقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر ألف حديث رواه . العقيلي
ومن بلايا محمد بن سعيد الدالة على زندقته روايته: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله".
[أصحاب الأهواء:]
الصنف الثاني: أصحاب الأهواء كالخوارج والروافض ومن عمل بعملهم من متعصبي المذاهب كما روى في مقدمة كتابه الجرح والتعديل ابن أبي حاتم
[ ص: 852 ] عن شيخ من الخوارج أنه كان يقول بعد ما تاب: انظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا.
ومن خفي ذلك ما حكاه أن ابن عدي محمد بن شجاع الثلجي كان يضع الأحاديث التي ظاهرها التجسيم وينسبها إلى أهل الحديث بقصد الشناعة عليهم لما بينه وبينهم من العداوة المذهبية. وقال أبو العباس القرطبي صاحب المفهم: "استجاز بعض فقهاء أصحاب الرأي نسبة الحكم الذي دل عليه القياس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسبة قولية. فيقول في ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة، لأنها تشبه فتاوى الفقهاء ولأنهم لا يقيمون لها سندا".
[من رق دينه:]
الصنف الثالث: من حمله الشره ومحبة الظهور على الوضع من رق دينه من المحدثين فيجعل بعضهم للحديث الضعيف إسنادا صحيحا مشهورا كمن يدعي سماع من لم يسمع. وهذا داخل في قسم المقلوب.
[من حمله التدين الناشئ عن الجهل:]
الصنف الرابع: من حمله التدين الناشئ عن الجهل وقد ذكره المصنف وتعلقوا بشبه باطلة.
[ ص: 853 ] الشبهة الأولى: أن الحديث الوارد في وعيد من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ورد في رجل معين ذهب إلى قوم وادعى أنه رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم يحكم في دمائهم وأموالهم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقتله وقال هذا الحديث.
والجواب عن هذه الشبهة أن السبب المذكور لم يثبت إسناده، ولو ثبت لم يكن لهم فيه متمسك; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الشبهة الثانية: أن هذا الحديث في حق من كذب على نبينا يقصد به عيبه أو شين الإسلام.
وتعلقوا لذلك بما روي عن - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبي أمامة . "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده بين عيني جهنم قال: فشق ذلك على أصحابه رضي الله عنهم حتى عرف في وجوههم، وقالوا: يا رسول الله قلت هذا ونحن نسمع منك الحديث فنزيد وننقص ونقدم ونؤخر فقال - صلى [ ص: 854 ] الله عليه وسلم -: لم أعن ذلك، ولكن عنيت من كذب علي يريد عيبي وشين الإسلام"
قال : هذا الحديث باطل وفي إسناده الحاكم محمد بن الفضل بن عطية اتفقوا على تكذيبه وقال صالح جزرة : "كان يضع الحديث".
وقد تجاسر أبو جعفر محمد بن عبد الله الفانتي السلمي فزعم أنه رأى مناما طويلا ساقه في نحو من كراس وفيه قلت: يا رسول الله فهذه الأخبار التي وضعوها عليك قال: "من تعمد علي كذبا يريد به إصلاحا لأمتي أو رفع لهم درجة في الآخرة، فأنا أرحم الخلق به فلا أخاصمه وأشفع له والله أرحم مني، ومن قصد بذلك الكذب وإفساد أمتي وإبطال حقهم، فأنا خصمه ولا أشفع له" انتهى.
وهو كلام في غاية السقوط، إنما أوردته لئلا يغتر به لأنني رأيته في كلام العلامة مغلطاي أورده وقال ينظر فيه.
الشبهة الثالثة: قال الكرامية أو من قال منهم: "إذا كان الكذب في الترغيب والترهيب، فهو كذب للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا عليه".
وهو جهل منهم باللسان، لأنه كذب عليه في وضع الأحكام فإن [ ص: 855 ] المندوب قسم منها، وتضمن ذلك الإخبار عن الله تعالى في الوعد على ذلك العمل بذلك الثواب.
الشبهة الرابعة: قالوا: ورد في بعض الطرق من حديث ابن مسعود وغيرهما - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والبراء بن عازب . "من كذب علي متعمدا ليضل به الناس فليتبوأ مقعده من النار"
قالوا: فلتحمل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة كما تعين حمل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة بالتعمد.
والجواب أن قوله: "ليضل به الناس".
اتفق أئمة الحديث على أنها زيادة ضعيفة.
وأقوى طرقها -ما رواه وضعفه من طريق الحاكم يونس بن بكير عن عن الأعمش ، عن طلحة بن مصرف ، عن عمرو بن شرحبيل - رضي الله عنه -. ابن مسعود
[ ص: 856 ] قال: "وهم يونس في موضعين".
1- أحدهما: أنه أسقط بين طلحة وعمرو رجلا وهو أبو عمار .
2- الثاني: أنه وصله بذكر - رضي الله عنه - وإنما هو مرسل. وعلى تقدير قبول هذه الزيادة، فلا تعلق بها لهم، ولأن لها وجهين صحيحين: ابن مسعود
أحدهما: أن اللام في قوله: ليضل ليست للتعليل، وإنما هي لام العاقبة كما في قوله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وهم لم يلتقطوه لقصد ذلك.
وثانيهما: أن اللام للتأكيد ولا مفهوم لها كما في قوله عز وجل: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم .
لأن افتراء الكذب على الله تعالى محرم مطلقا سواء قصد به الإضلال أو لم يقصده، والله تعالى أعلم.
الصنف الخامس: أصحاب الأغراض الدنيوية كالقصاص والسؤال في الطرقات وأصحاب الأمراء وأمثلة ذلك كثيرة.
الصنف السادس: من لم يتعمد الوضع كمن يغلط فيضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام بعض الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم كما أشار إليه المصنف في قصة ثابت بن موسى .
[ ص: 857 ] وكمن ابتلي بمن يدس في حديثه ما ليس منه كما وقع ذلك مع ربيبه وكما وقع لحماد بن سلمة مع وراقه لسفيان بن وكيع كاتب ولعبد الله بن صالح مع جاره ولجماعة من الشيوخ المصريين في ذلك العصر مع الليث خالد بن نجيح المدائني .
وكمن تدخل عليه آفة في حفظه أو في كتابه أو في نظره فيروي ما ليس في حديثه غالطا.
قال العلائي : "فأشد الأصناف ضررا أهل الزهد كما قال وكذا المتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ابن الصلاح
وأما باقي الأصناف كالزنادقة، فالأمر فيهم أسهل لأن كون تلك
[ ص: 858 ] الأحاديث كذبا لا يخفى إلا على الأغبياء وكذا أهل الأهواء من الرافضة والمجسمة والقدرية في شد بدعهم.
وأما أصحاب الأمراء والقصاص، فأمرهم أظهر; لأنهم في الغالب ليسوا من أهل الحديث.
قلت: وأخفى الأصناف القسم الأخير الذين لم يتعمدوا مع وصفهم بالصدق، فإن الضرر بهم شديد لدقة استخراج ذلك إلا من الأئمة النقاد - والله الموفق -.
تنبيه:
الكرامية - بتشديد الراء - نسبة إلى محمد بن كرام السجستاني وكان عابدا زاهدا إلا أنه خذل كما قال : فالتقط من المذاهب أرداها ومن الأحاديث أوهاها وصحب ابن حبان أحمد بن عبد الله الجويباري ، فكان يضع له الحديث على وفق مذهبه.
قال : "شهدت أبو العباس السراج ودفع إليه كتاب من محمد بن إسماعيل البخاري يسأله عن أحاديث منها: محمد بن كرام سفيان عن عن الزهري عن أبيه رفعه: "الإيمان يزيد ولا ينقص" . سالم
[ ص: 859 ] قال فكتب على ظهر كتابه: "من حدث بهذا استوجب الضرب /الشديد والحبس الطويل".
وقد ذكر الحاكم لمحمد بن كرام ترجمة جيدة وذكر أن اجتمع به غير مرة وكان يثني عليه. ابن خزيمة
وكرام المشهور - بتشديد الراء - ضبطه الخطيب وابن ماكولا وابن السمعاني وأبي ذلك متكلم الكرامية أبو عبد الله محمد بن الهيصم في كتابه (مناقب ) فقال: "المعروف في ألسنة المشايخ كرام بالفتح والتخفيف". محمد بن كرام
وزعم أنه بمعنى كرامة أو كريم، قال: ويقال بكسر الكاف على لفظ جمع كريم قال: وهو الجاري على ألسنة أهل سجستان .
قلت: وفي ذلك يقول فيما أنشده أبو الفتح البستي عنه وكذا أنشده عنه الثعالبي العتبي في كتاب اليميني: [ ص: 860 ]
إن الذين بجهلهم لم يقتدوا بمحمد بن كرام غير كرام الفقه فقه وحده أبي حنيفة
والدين دين محمد بن كرام
فقرأت بخط تاج الدين السبكي قال: قرأت بخط أن ابن الصلاح الشاعر قال في أبا الفتح البستي ابن كرام فذكر الشعر - أيضا - والله أعلم -.