[ ص: 172 ] فصل
[ ] مكر الله تعالى على ضربين
; أحدهما وهو الأغلب : أن يفعل تعالى فعلا خارجا عن قدرة العبد الذي كاد له ; فيكون الكيد قدرا [ زائدا ] محضا ليس هو من باب لا يسوغ ، كما كاد أعداء الرسل بانتقامه منهم بأنواع العقوبات ، وكذلك كانت قصة وكيد الله تعالى لا يخرج عن نوعين يوسف ; فإن أكثر ما أمكنه أن يفعل أن ألقى الصواع ، في رحل أخيه ، وأن أذن مؤذن بسرقتهم ، فلما أنكروا قال : { فما جزاؤه إن كنتم كاذبين } أي جزاء السارق أو جزاء السرق : { قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } أي جزاؤه نفس السارق ، يستعبده المسروق منه إما مطلقا وإما إلى مدة ، وهذه كانت شريعة آل يعقوب .
[ إعراب جملة في قصة يوسف ]
ثم في إعراب هذا الكلام وجهان ; أحدهما : أن قوله : { جزاؤه من وجد في رحله } جملة مستقلة قائمة من مبتدأ وخبر ، وقوله : { فهو جزاؤه } جملة ثانية كذلك مؤكدة للأولى مقررة لها ، والفرق بين الجملتين أن الأولى إخبار عن استحقاق المسروق لرقبة السارق ، والثانية إخبار أن هذا جزاؤه في شرعنا وحكمنا ; فالأولى إخبار عن المحكوم عليه ، والثانية إخبار عن الحكم ، وإن كانا متلازمين ، وإن أفادت الثانية معنى الحصر فإنه لا جزاء له غيره . والقول الثاني : أن { جزاؤه } الأول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية ، والمعنى جزاء السارق أن من وجد المسروق في رحله كان هو الجزاء ، كما تقول : جزاء السرقة من سرق قطعت يده
وجزاء الأعمال من عمل حسنة فبعشر أو سيئة فبواحدة ، ونظائره .
قال شيخنا رضي الله عنه : وإنما احتمل الوجهين ` لأن الجزاء قد يراد به نفس الحكم باستحقاق العقوبة ، وقد يراد به نفس فعل العقوبة ، وقد يراد به نفس الألم الواصل إلى المعاقب ; والمقصود أن إلهام الله لهم هذا الكلام كيد كاده ليوسف خارج عن قدرته ; إذ قد كان يمكنهم أن يقولوا : لا جزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق ; فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب ثبوت السرقة ، وقد كان يوسف عادلا لا يأخذهم بغير حجة ، وقد كان يمكنهم أن يقولوا : يفعل به ما يفعل بالسراق في دينكم ، وقد كان في دين ملك مصر - كما قاله أهل التفسير - أن يضرب السارق ويغرم قيمة المسروق مرتين ، ولو قالوا ذلك لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم ، ولهذا قال تعالى : { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ [ ص: 173 ] أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } أي ما كان يمكنه أخذه في دين ملك مصر ; إذ لم يكن في دينه طريق له إلى أخذه ، وعلى هذا فقوله : { إلا أن يشاء الله } استثناء منقطع ، أي لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر ، أو يكون متصلا على بابه ، أي إلا أن يشاء الله ذلك فيهيئ له سببا يؤخذ به في دين الملك من الأسباب التي كان الرجل يعتقل بها ، فإذا كان المراد من الكيد فعلا من الله - بأن ييسر لعبده المؤمن المظلوم المتوكل عليه أمورا يحصل بها مقصوده من الانتقام من الظالم - كان هذا خارجا عن الحيل الفقهية ; فإن كلامنا في الحيل التي يفعلها العبد ، لا فيما يفعله الله تعالى ، بما في قصة يوسف .
تنبيه على بطلان الحيل وأن من كاد كيدا محرما ; فإن الله يكيده ويعامله بنقيض قصده وبمثل عمله ، وهذه سنة الله في أرباب الحيل المحرمة أنه لا يبارك لهم فيما نالوه بهذه الحيل ، ويهيئ لهم كيدا على يد من يشاء من خلقه يجزون به من جنس كيدهم وحيلهم .
[ ما تدل عليه قصة يوسف ]
وفيها تنبيه على أن المؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة .
وفيها دليل على أن وجود المسروق بيد السارق كاف في إقامة الحد عليه ، بل هو بمنزلة إقراره ، وهو أقوى من البينة ، وغاية البينة أن يستفاد منها ظن ، وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين وبهذا جاءت السنة في وجوب الحد بالحبل والرائحة في الخمر كما اتفق عليه الصحابة ، والاحتجاج بقصة يوسف على هذا أحسن وأوضح من الاحتجاج بها على الحيل .
وفيها تنبيه على أن ; لقوله بعد ذلك : { العلم الخفي الذي يتوصل به إلى المقاصد الحسنة مما يرفع الله به درجات العبد نرفع درجات من نشاء } قال وغيره : بالعلم ، وقد أخبر تعالى عن رفعه درجات أهل العلم في ثلاثة مواضع من كتابه ، أحدها : قوله : { زيد بن أسلم وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ، نرفع درجات من نشاء } فأخبر أنه يرفع درجات من يشاء بعلم الحجة . وقال في قصة يوسف : { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء } فأخبر أنه يرفع درجات من يشاء بالعلم الخفي الذي يتوصل به صاحبه إلى المقاصد المحمودة ، وقال : { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } فأخبر أنه يرفع درجات أهل العلم والإيمان .