الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في الهدي والصيام عن التمتع

                                                                                                                                                                                        الأصل في ذلك قول الله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [البقرة : 196] . وللمتعة أربعة شروط ؛ وهي :

                                                                                                                                                                                        أن يأتي بها في أشهر الحج قبل الحج ، ثم يحج من عامه قبل أن يرجع إلى بلده . فإن كانت قبل أشهر الحج ثم حج من عامه ، أو في أشهر الحج ولم يحج من عامه ، أو حج من عامه بعد أن رجع إلى بلده ، أو إلى مثله في المسافة ، أو اعتمر بعد الحج في بقية ذي الحجة- لم يكن متمتعا ، ويجزئ من الهدي عن المتعة الشاة ؛ لقوله تعالى : فما استيسر من الهدي [البقرة : 196] .

                                                                                                                                                                                        ولا يقلد هدي المتعة إلا بعد الإحرام بالحج ، وكذلك القران .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قلد أو أشعر قبل الإحرام بالحج ، فقال أشهب وعبد الملك في كتاب محمد : لا يجزئه . وقال ابن القاسم : يجزئه . فلم يجزئه في القول الأول لأن المتعة إنما تجب إذا أحرم بالحج ، وإذا قلده وأشعره قبل ذلك كان تطوعا ، والتطوع لا يجزئ عن الواجب ، وأجزأ في القول الآخر قياسا على تقديم الكفارة قبل الحنث ، والزكاة إذا قرب الحول .

                                                                                                                                                                                        والذي تقتضيه السنة التوسعة في جميع ذلك ، فقد مضى ذكر ذلك في مواضعه .

                                                                                                                                                                                        ومن أحرم بالحج وعدم الهدي كان في عدمه على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                        على إياس من وجوده ، أو على يقين أنه يجده قبل الوقوف بعرفة ، أو شاك ، [ ص: 1249 ] فإن كان آيسا صام ، وصيامه موسع من حين يحرم إلى يوم عرفة ، ولا يؤخره لبعد يوم عرفة .

                                                                                                                                                                                        واختلف عن مالك في صيام يوم عرفة ، والاستحباب أن يستكمل الثلاث قبل يوم عرفة ؛ ليقوى على الذكر والدعاء .

                                                                                                                                                                                        وإن شك استحب له أن يؤخر صومه إلى آخر الوقت ؛ رجاء أن يأتي بما هو أفضل ، وهو الهدي .

                                                                                                                                                                                        وإن صام ثم وجد الهدي قبل خروج وقت الصوم أجزأه .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا صام على يقين أنه يجده قبل خروج وقت الصوم ، فعلى قول ابن القاسم يجزئه الصوم ، وعلى قول ابن حبيب لا يجزئه . وهذا قياس على قولهما فيمن كان على يقين من وجود الماء قبل خروج الوقت فصلى بالتيمم ، ثم وجد الماء في الوقت . وقد تقدم وجه قوليهما في كتاب الطهارة .

                                                                                                                                                                                        وآخر الوقت الذي لا يتأخر عن أن يبتدئ بالصوم فيه السابع والثامن والتاسع ، وليست هذه الأيام وقتا لالتماس الهدي ؛ لقوله تعالى : فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم [البقرة : 196] . فإذا كان الصوم قبل يوم النحر -لأنه محرم الصوم- علم أنه مطالب بالهدي والانتقال إلى الصوم قبل يوم النحر .

                                                                                                                                                                                        واستحب مالك لمن وجد الهدي قبل أن يستكمل صيام الأيام الثلاثة أن ينتقل إلى الهدي ، وهذا يحسن لمن قدم الصوم عن الوقت المضيق ، كالذي يصلي [ ص: 1250 ] بالتيمم وسط الوقت ، وليس كالذي يؤخر الصوم إلى الوقت المضيق .

                                                                                                                                                                                        ومن لم يصم قبل عرفة صام أيام التشريق ، وإن لم يفعل صام متى ذكر ، ولم يؤخر ؛ لأن الصوم كان معلقا بوقت ، فمن تركه عامدا أو ناسيا كان القضاء على الفور ؛ قياسا على الصلاة . وكذلك من لم يصم عن قرانه الثلاثة قبل عرفة صام أيام التشريق ؛ لأنه تمتع بالعمرة في أشهر الحج .

                                                                                                                                                                                        واختلف قول مالك إذا كان الدم عن ترك النزول بالمزدلفة أو المبيت بمنى أو عن بعض الجمار أو غيره مما دخل عليه بعد الوقوف بعرفة ، فرأى مرة : أنه يصوم أيام التشريق كالمتمتع ؛ لأنه مقيس عليه ثلاثة وسبعة إذا رجع . ورأى مرة : ألا يصومها ، وأن الرخصة في صيامها لمن وجب عليه الدم قبل .

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب محمد في فدية الأذى : لا يصومها في أيام منى . يريد : لأنه مخاطب بثلاثة أيام لا أكثر ، بخلاف المتمتع .

                                                                                                                                                                                        ولو أحرم رجل بعمرة في أيام منى ، ولم يكن أحرم بالحج فوجب عليه صوم عشرة أيام- لم يوقع الثلاثة في أيام منى ، وإنما جاءت الرخصة بصيامها للحجاج . وإن كان الدم عن فساد حج أو فوات وأتى بحجة القضاء كان [ ص: 1251 ] حكمه في الهدي والانتقال إلى صيام الثلاثة قبل الوقوف حكم المتمتع . فإن لم يصم قبل صام أيام منى على أحد قولي مالك ، وسبعة إذا رجع . وإن صام قبل أن يتلبس بحجة القضاء كان تقدمة الصوم على الخلاف في تقدمة الهدي ، فقد قيل في تقدمته : جائز ، ويكره ، ولا يجزئ ، وكذلك الصوم .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك فيمن عجز عن المشي : أنه يركب ويهدي ، فإذا رجع مشى المواضع التي ركبها .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية