وأما عدم تصديهم للتدريس والتصنيف فيه فهكذا كان دأبهم في الفقه والتفسير والحديث أيضا فإن جاز تصنيف الفقه ووضع الصور النادرة التي لا تتفق إلا على الندور إما إدخار اليوم وقوعها ، وإن كان نادرا ، أو تشحيذا للخواطر فنحن أيضا نرتب طرق المجادلة لتوقع وقوع الحاجة بثوران شبهة أو هيجان مبتدع أو لتشحيذ الخاطر أو لادخار الحجة حتى لا يعجز عنها عند الحاجة على البديهة والارتجال كمن يعد السلاح قبل القتال ليوم القتال ، فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين .
فإن قلت : فما المختار عندك فيه ؟ فاعلم أن الحق فيه أن إطلاق القول بذمه في كل حال ، أو بحمده في كل حال ، خطأ ، بل لا بد فيه من تفصيل .
فاعلم أولا أن الشيء قد يحرم لذاته ، كالخمر والميتة ، وأعني بقولي " لذاته " أن علة تحريمه وصف في ذاته ، وهو الإسكار والموت .
وهذا إذا سئلنا عنه أطلقنا القول بأنه حرام ولا يلتفت إلى إباحة الميتة عند الاضطرار ، وإباحة تجرع الخمر إذا غص الإنسان بلقمة ولم يجد ما يسيغها سوى الخمر وإلى ما يحرم لغيره كالبيع على بيع أخيك المسلم في وقت الخيار والبيع وقت النداء وكأكل الطين ؛ فإنه يحرم لما فيه من الإضرار وهذا ينقسم إلى ما يضر قليله وكثيره ، فيطلق القول عليه بأنه حرام ، كالسم الذي يقتل قليله وكثيره وإلى ما يضر عند الكثرة فيطلق القول عليه بالإباحة ، كالعسل ؛ فإن كثيره يضر بالمحرور وكأكل الطين .
وكأن إطلاق التحريم على الطين والخمر ، والتحليل على العسل التفات إلى أغلب الأحوال ؛ فإن تصدى شيء تقابلت فيه الأحوال فالأولى والأبعد عن الالتباس أن يفصل فنعود إلى علم الكلام ونقول إن : وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام . فيه منفعة وفيه مضرة ، فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال ، أو مندوب إليه ، أو واجب ، كما يقتضيه الحال