تنبيهات
الأول : لغة : الإعلام ، قال الله تعالى : الأذان وأذان من الله ورسوله [التوبة 3] [ ص: 354 ] واشتقاقه من الأذن بفتحتين وهو الاستماع ، وشرعا : الإعلام بوقت الصلاة المفروضة بألفاظ مخصوصة .
الثاني : في بعض أسرار الأذان وبدائعه ، قال القاضي : "الأذان كلمة جامعة لعقيدة الإيمان ، مشتملة على نوعيه من العقليات والسمعيات ، فأوله إثبات الذات ، وما يستحقه من الكمال والتنزيه عن أضدادها ، وذلك بقوله : "الله أكبر" ، وهذه اللفظة مع اختصارها دالة على ما ذكرناه ، ثم صرح بإثبات الوحدانية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى ، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على كل وظائف الدين ، ثم صرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية ، وموضعها بعد التوحيد لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع ، وتلك المقدمات من باب الواجبات . وبعد هذه القواعد كملت العقائد العقليات فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقه سبحانه وتعالى . ثم دعاهم إلى ما دعاهم الله إليه من العبادات ، فدعاهم إلى الصلاة ، وعقبها بعد إثبات النبوة؛ لأن معرفة وجوبها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لا من جهة العقل . ثم دعا إلى الفلاح ، وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم ، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء ، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام . ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها ، وهو متضمن لتأكيد الإيمان ، وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان ، وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره وبصيرة بإيمانه ، ويستشعر عظيم ما دخل فيه ، وعظمة حق من يعبده وجزيل ثوابه" . انتهى كلام القاضي . قال النووي : "وهو من النفائس الجليلة" وبالله التوفيق .
قلت : قد ألف الإمام الحافظ برهان الدين البقاعي رحمه الله جزءا لطيفا في أسرار الأذان سماه "الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان" . وأنا مورد هنا ما ذكره في الأذان ليستفاد ، فإنه نفيس جدا .
قال رحمه الله بعد أن أورد أحاديث بعض الأذان والتشهد : "مقصوده- أي الأذان- الإعلام بأوقات الصلاة تنبيها على أن الدين قد ظهر ، وانتشر علم لوائه في الخافقين واشتهر ، وسار في الآفاق على الرؤوس فبهر ، وأذل الجبابرة وقهر ، وأعلم أنه لما كان الدين المحمدي دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا غيره ، قد علا على كل دين ، فظهر كل مخالف ، [ ص: 355 ] وخفقت راياته بعد أن كانت خفية ، وانتشرت أعلام ألويته بعد أن كانت ملوية ، وبعتاة أهل الأباطيل مطوية . وقد كان الشرك منذ أزمان في غاية الظهور ، والباطل هو المعمول به والمشهور ، فناسب أن يصرح بأذانه ، ويشدى به على غاية إعلانه ، ولما كانوا يشركون به سبحانه ، ويتعبدون بسواه ، كان نسب الأمور البدائه بالتنبيه على تفرده بالكبرياء ، وتوحده بالعلاء ، فقال بادئا بالاسم الأعظم ، الدال على الذات ، المستجمع لجميع الكمالات : "الله" أي الملك الذي لا كفء له ولا سمي ، ولا ضد ولا نظير ، وأتى بالخبر نكرة ليدل على إسناده إليه على الإطلاق ، وأنه لا خفاء في انفراده بذلك ، فقال : "أكبر" ، ولم يذكر متعلقا ، ذهابا بالتعميم إلى أعلى الغايات وأنهى النهايات ، ولما كان قد طال ما قرر الشرك في الأذهان ، وصال به أهل الطغيان ، اقتضى الحال تأكيد ذلك ، ولأجل هذا ثنى التكبير في الإقامة مع أنها فرادى .
"ولما كان المراد من جميع كلمات الأذان مجرد الإعلام بالوقت وبهذه المقاصد المراد بها نسخ ما عداه ، قال مؤكدا من غير عطف لشيء من الجمل : "الله أكبر" . ولما كان الحال من جميع الأكوان شديد الاقتضاء ، لم يذكر التأكيد لتطاول أزمان الشرك قال ملذذا لأسماع الموجودات ، ومرويا لعطاش أكباد الكائنات : "الله أكبر" . ولما تم تقرير ذلك في الأذهان ، وعلم علما تاما أن التوحيد قد علا ، وقهر جميع الأديان ، ارتقب كل سامع ما يقال بعده ، فقال مبتدئا دورا جديدا من هذا الإعلام لمزيد التقرير عند جميع الأنام : "الله أكبر" .
"فلما علم أن ذلك إلى غير نهاية ، ولا حد تقف عنده كل غاية ، قال مترجما لما أنتجه ، ملقنا لكل سامع ما وجب عليه من الجواب ، مسرا بذلك بعض الأسرار ، إعلاما بما كان من حال هذا الدين في أول الأمر ، برهانا على حسن هذا التأكيد : "أشهد" أي أعلم علما قطعيا أني في مريد بصري كالناظر إلى محسوس هو في غاية الجلاء : "ألا إله إلا الله" . ولما كان المقام كما مضى شديد الاقتضاء للتأكيد قال ثانيا : "أشهد ألا إله إلا الله" .
"فلما أخذ المقام حظه من التأكيد ، ولم يحتج إلى مزيد ، فتلقى ذلك بالقبول العبيد ، فثبتت رسالة الذي أتى بهذا الدين ، وجاهد به الجاحدين ، حتى قهرهم وحده صاغرين أجمعين ، قال على طريق النتائج المسلمة : "أشهد أن محمدا" - ذاكرا أشهر أسمائه وأطيبها وأظهرها- "رسول الله" ، مخصصا وصف الرسالة الذي هو بين الحق والخلق ، لأن المقام داع إليه ، ومقصور عليه ، ثم أتبع ذلك ما اقتضاه الحال من تأكيده في تعظيمه وتمجيده فقال :
"أشهد أن محمدا رسول الله" . فلما أخذ المقام حظه من التأكيد للإعلام ، بما كان فيه للإسلام من الشدائد والآلام ، أتبعه ما اقتضاه الحال ، من رفع الصوت بهذا المقال ، مشيرا مع ذلك إلى أن باطن الدين وظاهره سواء . ليس فيه حقيقة تخالف شريعة ، وخاصة أن المتشرع به يجب [ ص: 356 ]
عليه أن يكون مثل الشرع ، ظاهره وباطنه سواء ، لا نفاق فيه بوجه أصلا ، فقال : "أشهد ألا إله إلا الله" .
"فلما استقر في الأذهان سر هذا الإعلان ، أتبعه ما اقتضى الحال من الشهادة للآتي بهذا الدين من صدق المقال ، في دعوى الإرسال ، فقال : "أشهد أن محمدا رسول الله" ، ثم أكده كما مضى فقال : "أشهد أن محمدا رسول الله" . ولما ثبت ذلك ، وانجلت دياجير تلك الأمور الحوالك ، فتيسر السلوك لكل سالك ، في أشرف المسالك ، قال ذاكرا لما آثرته الرسالة من الخلاص من أشراك الضلالة ، والرد على طرقها الميالة ، وأوديتها المغتالة : "حي على" - أي هلموا أقبلوا جهارا غير خائفين من أحد- إلى "الصلاة" ، بادئا بما هو نهاية الدين ، الجامع لشمله ، المميز لأهله .
"ولما كان الناظر لذلك الحال ، يستدعي عجبا من الوصول إلى هذا المآل ، قال مؤكدا : "حي على الصلاة" . فلما تقرر ذلك كان كأنه قيل : هل من عمل غيرها؟ فقال : "حي على الفلاح" ، فكان ذلك ، مع أنه دعاء إلى كل عمل يوجب الفوز والظفر بكل مراد مؤكدا للدعاء إلى الصلاة على أبلغ وجه .
"ولا شك أنه أحسن مما ورد في بعض الآثار الموقوفة في الموطأ ، رواية محمد بن الحسن ، وجاء مع عن عبد الرزاق رضي الله عنهما ، وصرح الحفاظ بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : "حي على خير العمل" ، لأنه مع كونه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد صار شعار الروافض ، لا يشمل جميع الأعمال الصالحة ، وكان الوارد في الصحيح أبلغ من وجهين : من جهة أنه شامل لكل خير ، ومن جهة التعبير عن ذلك باللازم الذي هو الغاية المترتبة على العمل ، تحبيبا فيه ، وتشويقا إليه ، مع أنه كان يقوله بعد : حي على الفلاح" . ابن عمر
"ولما كان تطاول الصولة بالإذلال والقهر ، موجبا لاستبعاد الإقبال على كل عمل من أعمال الشرع على سبيل القهر ، أكد هذا الكلام الداعي إلى كل خير لهذا ، وللإشارة إلى أنه لحسنه جدير "بالتأكيد ، وأهل لأن يعرف بمقدار لجلالة آثاره ، فقال : "حي على الفلاح" ، وفيه إشارة إلى أن الأمر خطير ، والطريق صعب ، فلا بد من التأهب له بأعظم الزاد ، لتحصل الراحة في المآل والمعاد .
"ولما كان المدعو قد يكون نائما ، وكان النوم قد يكون خيرا ، إما بأن يكون القصد به راحة البدن للتقوي على الطاعة ، أو أن يكون للتخلي عن المعصية ، وكان أكثر ما يكون ذلك في آخر الليل ، كان التثويب خاصا بأذان الصبح ، فقال فيه : "الصلاة" - التي هي أعظم الفلاح ، ومن أعظم مقاصد هذا الأذان الإعلام بوقتها والدعاء إليها- "خير من النوم" . ولما كان من يغلبه [ ص: 357 ]
النوم محتاجا إلى الإزعاج ، أكد ذلك بالتكرير ، فقال : "الصلاة خير من النوم" . ولما كان للصبح أذانان ، كان التثويب ربما كان في الأول ، فكان دعاء إلى قيام الليل الذي شرع له ذلك الأذان ، كما بين سره في بعض الروايات في قوله : . وربما كان في الثاني ، فكان دعاء إلى فرض الصبح ، وهو بالأول أنسب؛ لأن الفرض له حاث يحث عليه ، وداع ملح يدعو إليه ، وهو الوجوب الذي من أخل به عوقب ، ومن جاوز حده ليم وعذب . "ليرجع قائمكم وينبه نائمكم"
"ولما تم الدين بجملته ، وكمل أصلا وفرعا ، قولا ونية وعملا ، برمته ، علل الدعاء إليه مرغبا مرهبا ، بقوله ، مذكرا بما بدأ الأمر به ، لاستحضار عظمته التي أظهر بها الدين ، وأذل بها المعتدين ، بعد أن كانوا على ثقة من أنه لا غالب لهم ، "الله أكبر" ، ثم أكد بمسيس الحاجة إلى ذلك في الترغيب والترهيب ، فقال : "الله أكبر" . فلما تم الأمر ، وجلا التشويق والزجر ، لم تدع حاجة إلى تربيع التكبير هنا كما كان في الأول ، فختم بما بدأ به من التوحيد؛ إعلاما بأنه لا يقبل شيء من الدين إلا به ، مقارنا له من ابتدائه إلى انتهائه ، فقال : "لا إله إلا الله" .
"ولما كان قد وصل إلى حد لا مزيد عليه ، لم يحتج إلى تأكيد ، حتى ولا بلفظ الشهادة؛ إعلاما بأنه ليس وراء هذا إلا السيف لو توقف عنه ، أو ما عاند فيه . ولما كان من أجل ما يراد بالأذان- كما مضى- الإعلام بظهور الإسلام على جميع الأديان ، وأنه قد أورق عوده ، وزكا وجوده ، وثبت عموده ، وعز أنصاره وجنوده ، جاء على سبيل التعديد ، والتقرير والتأكيد ، من غير عاطف ولا لافت عن هذا المراد ولا صارف؛ تنبيها على أن كل جملة منه ركن برأسه ، مستقل بذلك بنفسه ، معرب عما هو المراد من الإظهار بالتعداد .
"هذا ما شرحه الله تعالى لعباده من الأذان في حال النوم واليقظة ، في الليل والنهار ، على وفاء لا مزيد عليه ، كما صرح به في
قوله- صلى الله عليه وسلم- : "اللهم رب هذه الدعوة التامة ، فمن زاد حرفا فما فوقه فقد أساء وتعدى وظلم" .
ومن الواضح البين أن المعنى في بها الإيذان باعتقاده ، والإذعان لمراده ، وأنه تخصيص الجواب في الدعاء إلى الصلاة والفلاح ، بالحوقلة ، والمراد بها سؤال المعونة على تلك الأفعال الكرام بالتبرؤ من القدرة على شيء بغير تقدير الله ، ردا للأمر إلى أهله ، وأخذا له من معدنه وأصله ، والإقامة فرادى ، لأنه لما ثبت بالأذان أمر الوحدانية والرسالة ، وعلم المدعو ما نسب إليه ، صار الأمر غنيا عن التأكيد ، فلم يحتج إلى غير الإعلام بالقيام إلى ما قد دعي إليه ، وأعلم بوقته ، وأكد التكبير بما ذكر في الأذان نوع تأكيد ، لما تقدم من مزيد الاهتمام والإقامة ، لإسراع من عنده بعض غفلة أو توان" . انتهى . إجابة السامع لألفاظه