قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما ذهب عن إبراهيم الخوف الذي أوجسه في نفسه من رسلنا ، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه ، وأمن أن يكون قصد في نفسه وأهله بسوء ( وجاءته البشرى ) ، بإسحاق ، ظل ( يجادلنا في قوم لوط ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
18331 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، [ ص: 401 ] قوله : ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) يقول : ذهب عنه الخوف ، ( وجاءته البشرى ) ، بإسحاق .
18332 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، بإسحاق ، ويعقوب ولد من صلب إسحاق ، وأمن مما كان يخاف ، قال : ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ) ، [ سورة إبراهيم : 39 ] .
وقد قيل معنى ذلك : وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون .
ذكر من قال ذلك :
18333 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وجاءته البشرى ) ، قال : حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط ، وأنهم ليسوا إياه يريدون .
وقال آخرون : بشر بإسحاق .
وأما "الروع" : فهو الخوف ، يقال منه : "راعني كذا يروعني روعا" إذا خافه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : "كيف لك بروعة المؤمن"؟ ومنه قول عنترة :
ما راعني إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم
[ ص: 402 ]بمعنى : ما أفزعني .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
18334 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "الروع" ، الفرق .
18335 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
18336 - . . . . قال وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال : الفرق .
18337 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال : الفرق .
18338 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال : ذهب عنه الخوف .
وقوله : ( يجادلنا في قوم لوط ) ، يقول : يخاصمنا . كما : -
18339 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( يجادلنا ) ، يخاصمنا .
18340 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله : ( يجادلنا ) يكلمنا . [ ص: 403 ] وقال : لأن إبراهيم لا يجادل الله ، إنما يسأله ويطلب إليه .
قال أبو جعفر : وهذا من الكلام جهل ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط ، فقول القائل : " إبراهيم لا يجادل" ، موهما بذلك أن قول من قال في تأويل قوله : ( يجادلنا ) ، يخاصمنا ، أن إبراهيم كان يخاصم ربه ، جهل من الكلام ، وإنما كان جداله الرسل على وجه المحاجة لهم . ومعنى ذلك : "وجاءته البشرى يجادل رسلنا" ، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف "الرسل" .
وكان جداله إياهم ، كما : -
18341 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي قال ، حدثنا جعفر ، عن سعيد : ( يجادلنا في قوم لوط ) ، قال : لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم : إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين : قال لهم إبراهيم : أتهلكون قرية فيها أربعمائة مؤمن؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا : لا! قال : أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنا؟ قالوا : لا! وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط ، فسكت عنهم واطمأنت نفسه .
18342 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال ، قال الملك لإبراهيم : إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب .
18343 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : [ ص: 404 ] ( يجادلنا في قوم لوط ) ، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذبوها أنتم؟ قالوا : لا! حتى صار ذلك إلى عشرة قال ، أرأيتم إن كان فيها عشرة أمعذبوهم أنتم؟ قالوا : لا! وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد .
18344 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( يجادلنا في قوم لوط ) ، قال : بلغنا أنه قال لهم يومئذ : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين؟ قالوا : إن كان فيها خمسون لم نعذبهم . قال : أربعون؟ قالوا : وأربعون! قال : ثلاثون؟ قالوا : ثلاثون! حتى بلغ عشرة . قالوا : وإن كان فيهم عشرة! قال : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير قال ابن عبد الأعلى ، قال محمد بن ثور ، قال معمر : بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان ، أو ما شاء الله من ذلك .
18345 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن ( السدي ، فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، قال : ما خطبكم أيها المرسلون ؟ قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، فجادلهم في قوم لوط قال ، أرأيتم إن كان فيها مائة من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا : لا! فلم يزل يحط حتى بلغ عشرة من المسلمين ، فقالوا : لا نعذبهم ، إن كان فيهم عشرة من المسلمين ، ثم قالوا : "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين " هو لوط وأهل بيته ، وهو قول الله تعالى ذكره : ( يجادلنا في قوم لوط ) . فقالت الملائكة : ( يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ) .
18346 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، يعني : إبراهيم جادل عن قوم لوط ليرد عنهم العذاب قال : فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين [ ص: 405 ] جادلهم في قوم لوط ليرد عنهم العذاب ، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به : أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم؟ قالوا : ، لا! قال : أفرأيتم إن كانوا تسعين؟ قالوا : لا! قال : أفرأيتم إن كانوا ثمانين؟ قالوا : لا! قال : أفرأيتم إن كانوا سبعين؟ قالوا : لا! قال : أفرأيتم إن كانوا ستين؟ قالوا لا! قال : أفرأيتم إن كانوا خمسين؟ قالوا لا! قال : أفرأيتم إن كان رجلا واحدا مسلما؟ قالوا : لا! قال : فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنا واحدا ، ( قال إن فيها لوطا ) ، يدفع به عنهم العذاب ( قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) [ سورة العنكبوت : 32 ] ، ( قالوا يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ) .
18347 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال قال ابن جريج ، إبراهيم : أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين؟ حتى هبط إلى خمسة . قال : وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف .
18348 - حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا أبو المثنى ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا ( لما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، إلى آخر الآية قال إبراهيم : أتعذب عالما من عالمك كثيرا ، فيهم مائة رجل؟ قال : لا وعزتي ، ولا خمسين ! قال : فأربعين؟ فثلاثين؟ حتى انتهى إلى خمسة . قال : لا ! وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني ! قال الله عز وجل : ( فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) [ سورة الذاريات : 36 ] ، أي لوطا وابنتيه ، قال : فحل بهم من العذاب ، قال الله عز وجل : ( وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم ) [ سورة الذاريات : 37 ] ، وقال : ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ) . [ ص: 406 ]
والعرب لا تكاد تتلقى "لما" إذا وليها فعل ماض إلا بماض ، يقولون : "لما قام قمت" ، ولا يكادون يقولون : "لما قام أقوم" . وقد يجوز فيما كان من الفعل له تطاول مثل "الجدال" "والخصومة" والقتال ، فيقولون في ذلك : "لما لقيته أقاتله" ، بمعنى : جعلت أقاتله .
وقوله : ( إن إبراهيم لحليم أواه منيب ) ، يقول تعالى ذكره : إن إبراهيم لبطيء الغضب ، متذلل لربه خاشع له ، منقاد لأمره ( منيب ) ، رجاع إلى طاعته ، كما : -
18349 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : ( أواه منيب ) ، قال : القانت : الرجاع .
وقد بينا معنى "الأواه" فيما مضى ، باختلاف المختلفين ، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول ، بما أغنى عن إعادته .