قلنا : إن تأثير الفسق والفساد في الأمم يشبه تأثيره في الأفراد ، ومثله ما ذكرنا آنفا من اختلاف الأبدان والأمزجة في احتمال الأمراض ، واختلاف وسائل المعيشة والعلاج ، فأطباء الأبدان مجمعون على مضار السكر الكثيرة وكونها سببا للأمراض البدنية والعقلية المفضية إلى الموت ، وإننا نعلم أن تأثيرها في البدن القوي دون تأثيرها في البدن الضعيف ، فإن القليل منها يبطئ تأثير ضرره عن تأثير الكثير ، وأن بعضها أضر من بعض ، وأطباء الاجتماع مجمعون على أن الإسراف في الفسق والترف مفسد للأمم ، وأن الظلم والبغي بغير الحق ، والغلو في المطامع والعلو في الأرض ، والتنازع على الاستعمال ، كل ذلك من أسباب الهلاك والدمار ، ولكن لدى هذه الدول كثيرا من القوى المعنوية والمادية التي تقاوم بها سرعة تأثير هذه الأدواء الاجتماعية ، كالأدوية وطرق الوقاية التي تقاوم بها سرعة تأثير هذه [ ص: 361 ] الأمراض الجسدية ، والرياضة الشاقة التي يتقى بها إضعاف الترف للأبدان . وأعظم هذه القوى الواقية للأمم النظام ومراعاة سنن الاجتماع حتى في نفس الظلم ، وفي إخفائه عمن يضر الظالمين علمهم به ولو من أقوامهم ، وإتقان الوسائل والأسباب في إلباس ظلمهم لباس العدل ، وجعل باطلهم عين الحق ، وإبراز إفسادهم في صورة الإصلاح ، وإيجاد أنصار لهم عليه من المظلومين ، بل إقناع الكثيرين منهم ، بأن سيادتهم عليهم خير لهم من سيادتهم لأنفسهم ، وغير ذلك مما لا محل لشرحه هنا ، وما أحسن قول الشاعر المصري في تفريقه بين ما كان من الظلم الوطني وما هو كائن من الظلم الأجنبي في مصر وأمثالها .
لقد كان هذا الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى صار ظلما منظما
وقد قلت للأستاذ الإمام مرة : ما بال باطل هؤلاء الإفرنج في شئونهم السياسية والدينية ثابتا ناميا لا يدمغه الحق ؟ - أو ما هذا معناه - فقال : إنه ثابت بالتبع للنظام الذي هو أقوى الحق ، أي فهو يزول إذا قذف عليه بحق مؤيد بنظام مثله أو خير منه ، فهذا ما ينبغي أن يعمل له المستعبدون لهم في الشرق ، مع مباراتهم في العلوم والفنون دون الترف والفسق .
بيد أن هذا كله لا يمنع انتقام الله منهم ، وإنما يجري على مقتضى سننه في تأخيره عنهم ، فهو مثل من أمثال استئخار العذاب بأسباب تأخير الأجل ، وليس من أسباب منعه . فإنما منعه بالرجوع إلى الحق والعدل والاعتدال ، والصلاح والإصلاح . وإن حكماءهم وعلماءهم يعلمون ذلك وقد نقلنا بعض أقوالهم في المنار ، ومنها قول بعضهم لنا في مدينة ( جنيف - سويسرة ) إن كثيرا من العقلاء يتوقعون قرب هلاك أوربة في حرب عاجلة شر من الحرب الأخيرة التي فقدت بها ألوف الألوف من قتلى المعارك ، ومثلهم ما بين قتيل مرض أو مخمصة ، ومشوه أضحى عالة على الوطن . وإنهم يرجحون ألا يعدو هلاكها هذا الجيل . ومنها ما قاله أحد ضباط الإنكليز في أثناء الحرب من حديث دار بينهم في عمر الإمبراطورية البريطانية ، وهو أنه قد دب إليها الفساد الذي ذهب بإمبراطورية الرومان ، وأنهم يقدرون أنها قد تعيش ثمانين عاما . وقد كنت منذ أيام أتحدث مع بعض أذكياء اليهود في مفاسد الفرنسيس وقلة نسلهم . فقلت له : إنني أظن أن أجلهم لا يتجاوز هذا الجيل . فقال : إنهم يقدرون لأنفسهم جيلين اثنين . كل هذه التقديرات من الرجم بالغيب . وإنما الأمر الذي لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم ، أو الإلمام بعلم الاجتماع وسنن العمران لا في الغرب ولا في الشرق ، هو أن إسراف شعوب أوربة في الفسق ، وإصرار حكوماتها على سياسة الإفراط في الطمع والمكر ، والتلبيس والتنازع على الاستعمار والعلو في الأرض ، وتأييد الأفراد من أصحاب المال ، على الجماهير من العمال - كل ذلك من دود الفساد المفضي إلى [ ص: 362 ] الهلاك . وليراجع من شاء ما دار بيني وبين ذلك السياسي السويسي في هذا الموضوع من رحلتي الأوربية في المنار ( ج 8 م 23 ) .
على أن الحرب الأخيرة قد ثلت عرش قياصرة الروس والنمسة ، ومزقت ممالكهما كل ممزق ، كما مزقت سلطنة آل عثمان فجعلتها في خبر كان . وأسقطت عرش عاهل الألمان ، وصارت دولتهم جمهورية ، وثلت عروش ملوك آخرين ، وما بقي من الدول والأمم في أوربة لم يتعظوا ولم يزدجروا ، ولكل أمة أجل .
فإن قيل : إذا كان علماء الاجتماع والأخلاق وفلاسفة التاريخ من هؤلاء الأقوام يعلمون أنه قد دب إليهم داء الأمم الذي هلك به من قبلهم وينذرونهم ذلك ، فكيف لا يتعظون ولا يتوبون من ذنبهم ، ولا يثوبون إلى رشدهم ؟ .
قلنا : إن أمرنا في ذلك أعجب من أمرهم ، فقد أنذرنا ربنا في كتابه مثل هذا في أمر دنيانا وآخرتنا جميعا ، ولكلام الله تعالى من السلطان على قلوب المؤمنين ، ما ليس لكلام العلماء عند الماديين ، فمنا ومنهم من لا يسمع النذر ، ومن لا يعقلها إذا سمعها ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) ( 8 : 23 ) ومن يتمارون بها أو يتأولونها ، ومن تغرهم أنفسهم بأنهم يتقونها ، فتعدوهم أو يعدونها ، ومن يجهلون علاج العلة أو يعجزون عنه ، ومتى أزمن الداء بطل فعل الدواء ، وإذا تمكنت الأهواء في الأنفس وصارت ملكات لها ، ملكت عليها أمرها ، وغلبتها على اختيارها ، وهذا مشاهد في الأفراد والأمم أولى به منها . فإنك ترى بعض الأطباء يسكرون وهم على يقين من ضرر السكر ، ولكن داعيته أرجح في النفس من وازع العقل والفكر . عذرت طبيبا على الشرب مذكرا له بما يعلم من ضره - فقال لأن أعيش عشرا بلذة آثر عندي من أن أعيش عشرين محروما منها . فقلت : لو كان هذا مضمونا لك ، لجاز أن يقبل منك ، ولكن علمكم يقتضي خلافه . فما يدريك لعل الخمر تحدث لك من الأسقام ما تعيش به العشرين في أشد الآلام ؟ فسكت . وقد ابتلي بالصرع وغيره ولكنه لم يتب .
وها نحن أولاء قد فضعفنا ثم ساعد الزمان بعض شعوبنا فاعتزت وعلت ثم انخفضت وضعفت ، وقد قام منا من ينذرنا ويذكرنا بآيات ربنا ويدعونا بها إلى ما يحيينا فأعرض أمراؤنا وعلماؤنا ومن ورائهم دهماؤنا ( كنا بهداية ديننا أمة عزيزة قوية متحدة ، فمزقتنا الأهواء ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر ) ( 54 : 4 ، 5 ) ( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) ( 10 : 101 ) .
[ ص: 363 ] هذا - وقد بحث المفسرون هنا في آجال الأفراد وما يتعلق بها ، ولا شك في أن لكل فرد أجلا في علم الله وفي تقديره ( ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) ( 6 : 2 ) فأما الذي في علمه تعالى فلا يتغير ، ولا يقتضي هذا نفي الأسباب والمسببات ، ولا كون الناس مجبورين لا اختيار لهم في أمور الحياة والممات ، فإن كلا من هذين حق ثابت بالحس والضرورة وبالوحي جميعا والحق الواقع مثال ومصداق لما في العلم وليس العلم فاعلا فيه وإنما هو كاشف له .
وأما الأجل المقدر بمقتضى نظام الخلق فهو الذي يعبر عنه علماء الدنيا بالعمر الطبيعي وهو مائة سنة في متوسط تقدير أطباء عصرنا . وهم يقدرون لكل فرد عمرا بعد الفحص عن قوة جسمه وأعضائه الرئيسة ووظائفها ، ويشترط في صحة التقدير أن يعيش بنظام واعتدال وتقوى ، فإذا أخل بذلك اختل التقدير وبعد عن الحقيقة الثابتة في علم الله تعالى وإلا كان قريبا منها بحسب ما علم من سننه تعالى . ومن قتل أو غرق مثلا قبل انتهاء العمر المقدر له يقال إنه مات قبل انتهاء عمره الطبيعي أو التقديري . ولكن بأجله الحقيقي عند الله تعالى . وكل والإنساء فيه بالأسباب العملية والنفسية كصلة الرحم والدعاء فإنما هو بالنسبة إلى الأجل التقديري أو الطبيعي الذي هو عبارة عن مظهر سنن الله في الأسباب والمسببات ، فإن ما ورد في نقص العمر وإطالته ، وهناء المعيشة من أهم أسباب طول العمر . وكذلك الدعاء الذي منشؤه قوة الإيمان بالله والرجاء في معونته وتوفيقه للمؤمن فيما يضعف عنه أو يعجز عن أسبابه ، ومن الأمور الثابتة بالتجارب المطردة أن الهموم والأكدار ولا سيما الداخلي منها كقطيعة الأرحام ، واليأس من روح الله القادر على كل شيء عند تقطع الأسباب ، يضعفان قوى النفس الحيوية ويهرمان الجسم قبل إبان الهرم كما قال الشاعر : صلة الرحم من أهم أسباب هناء المعيشة
والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وللهموم أسباب كثيرة تدخل في هذا الباب ، ومثلها في تقصير العمر الطبيعي قلة الغذاء الذي يحتاج إليه البدن والإسراف فيه وفي كل لذة . وكذا في الراحة والتعب وكثرة التعرض للنجاسة والسكنى في الأمكنة القذرة التي لا تصيبها الشمس ولا يتخللها الهواء بالقدر الذي يكفي لامتصاص الرطوبات وقتل جراثيم الفساد فيها ، والأمم العليمة بالسنن الإلهية في الصحة والسقم والقوة والضعف تحصي دائما عدد المرضى والموتى فيها ، وتضع لها نسبا حسابية تعرف بها متوسط الآجال في كل منها ، وقد ثبت بها ثبوتا قطعيا أن من أسباب قلة الوفيات تحسين وسائل المعيشة والاعتدال فيها ، والتوقي من الأمراض باجتناب أسبابها المعروفة قبل وقوعها بقدر الإمكان ومعالجتها بعد طروئها كذلك . وكل ما ثبت ووقع فهو دليل على أن [ ص: 364 ] العلم الإلهي قد سبق به ، ولا شيء مما ثبت في الواقع بناقض لشيء مما ورد في نص كتاب ربنا تعالى وما صح من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بل هو موافق له ، وهذا من حجج كون هذا الدين من علم الله تعالى ؛ إذ لا يمكن لبشر أن يقرر هذه المسائل الكثيرة في العلوم المختلفة على وجه الصواب الذي لا يزيده ترقي علوم البشر وتجاربها إلا تأكيدا ، وناهيك بما جاء على لسان نبي أمي نشأ بين الأميين ، وسنعود إلى مثل هذا البحث في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن العطف في قوله تعالى : ( ولا يستقدمون ) مستأنف لبيان ما تتم به الفائدة وإلا وجب أن يكون معطوفا على الجملة الشرطية لا الجزائية فيكون حاصل المعنى : ولكل أمة أجل لا يتأخرون عنه إذا جاء ، وهم لا يتقدمون عليه أيضا بأن يهلكوا قبل مجيئه . ولا يظهر معنى لعطفه على ( لا يستأخرون ) الذي هو جزاء قوله : ( فإذا جاء أجلهم ) إلا بتكلف ، والمعنى على هذا موافق لقوله تعالى : ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) ( 23 : 43 ) وأما حكمة العدول عن الترتيب الطبيعي هنا فهي إفادة أن تأخير الأجل أو تأخير الهلاك قبل حلول أجله ممكن للأمة التي تعرف أسبابه وتملك العمل بها ، كترك الظلم والبغي والفجور إلى أضدادها وهو يتضح بما ضربنا لها من الأمثال آنفا .