المفردات : ( السفهاء ) جمع سفيه من السفه والسفاهة ، وتقدم في تفسير سورة البقرة أن الاضطراب في الرأي ، والفكر ، أو الأخلاق . وأصله الاضطراب في المحسوسات . وقال السفه هو الراغب : السفه خفة في البدن ، ومنه قيل : زمام سفيه : كثير الاضطراب ، وثوب سفيه : رديء النسج . واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل ، وفي الأمور الدنيوية والأخروية .
[ ص: 310 ] ثم جعل السفه في الأمور الدنيوية هو المراد من لفظ السفهاء هنا ، ومثل للسفه في الأمور الأخروية بقوله - تعالى - : وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا [ 72 : 4 ] . فالسفهاء هنا هم المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ويسيئون التصرف بإنمائها وتثميرها - قياما تقوم بها أمور معايشكم فتحول دون وقوعكم في الفقر ، وقرأها نافع ، وابن عامر ( قيما ) ، وهو بمعنى قياما كما يأتي . قال الراغب القيام والقوام : اسم لما يقوم به الشيء ، أي يثبت ، كالعماد ، والسناد لما يعمد به ، وذكر الآية . وفسرت في الكشاف بقوله : أي تقومون بها ، وتتعيشون ، ولو ضيعتموها لضعتم قال : وقرئ ( قيما ) بمعنى قياما كما جاء عوذا بمعنى عياذا - وارزقوهم من الرزق ، وهو العطاء من الأشياء الحسية ، والمعنوية ، ويطلق على النصيب من الشيء ، وقد يخص بالطعام ، قيل : وهو الظاهر هنا لمقابلته بالكسوة . كما قال في آية المرضعات : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف [ 2 : 233 ] وقد يقال : إنه أعم في الموضعين . وقوله : آنستم منهم رشدا معناه أبصرتم منهم هذا النوع من الرشد في حفظ الأموال ، وحسن التصرف فيها إبصار إيناس ، وهو الاستيضاح ، واستعبر للتبيين كما في الكشاف ، وعن : أن الرشد الصلاح في العقل والحفظ للمال ابن عباس إسرافا وبدارا مصدران لـ أسرف وبادر ، فالإسراف مجاوزة الحد في كل عمل ، وغلب في الأموال ، ويقابله القتر ، وهو النقص في النفقة عما ينبغي ، قال - تعالى - : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ 20 : 67 ] يقال : قتر - يقتر بوزن نصر ينصر ، وقتر يقتر - بالتشديد - والقوام كالقيام : هو القصد بينهما الذي تقوم به المعيشة وتثبت كما تقدم . والبدار : المبادرة أي المسارعة إلى الشيء ، يقال : بادرت إلى الشيء وبدرت إليه . وقوله : أن يكبروا في تأويل المصدر ، أي كبرهم في السن ، يقال : كبر يكبر - بوزن علم يعلم ، إذا كبرت سنه ، وأما كبر يكبر - بضم الباء - في الماضي والمضارع ، فهو كعظم يعظم حسا ، أو معنى فليستعفف فليعف مبالغا في العفة ، أو فليطالب نفسه بالعفة ويحملها عليها ، وهي ترك ما لا ينبغي من الشهوات ، أو ملكة في النفس تقتضي ذلك ، وطلبها يكون بالتعفف وهو تكلف العفة المرة بعد المرة ، حتى تستحكم الملكة في النفس بالتكرار ، والممارسة كسائر الأخلاق ، والملكات المكتسبة بالتربية .
المعنى : اختلف مفسرو السلف في المراد بالسفهاء هنا . فقيل : هم اليتامى ، والنساء . وقيل : النساء خاصة . وقيل : الأولاد الصغار للمخاطبين . وقيل : هي عامة في كل سفيه من صغير ، وكبير ، وذكر ، وأنثى ، واختاره ، وجعل الخطاب لمجموع الأمة ليشمل النهي كل مال يعطى لأي سفيه ، وهو أحسن الأقوال - راجع تفسير ابن جرير ولا تأكلوا أموالكم [ 2 : 188 ] - ص157 ج 2 [ ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] وقال الأستاذ الإمام : أمرنا الله - تعالى - في الآيات [ ص: 311 ] السابقة بإيتاء اليتامى أموالهم وبإيتاء النساء صدقاتهن أي مهورهن ، وأتى في قوله : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما بشرط للإيتاء يعم الأمرين السابقين ; أي أعطوا كل يتيم ماله إذا بلغ ، وكل امرأة صداقها إلا إذا كان أحدهما سفيها لا يحسن التصرف في ماله ، فحينئذ يمتنع أن تعطوه إياه لئلا يضيعه ، ويجب أن تحفظوه له ، أو يرشد ، وإنما قال : أموالكم ولم يقل أموالهم مع أن الخطاب للأولياء ، والمال للسفهاء الذين في ولايتهم للتنبيه على أمور :
أحدها : أنه وجب على وليه أن ينفق عليه من مال نفسه ، فبذلك تكون إضاعة مال السفيه مفضية إلى شيء من مال الولي ، فكأن ماله عين ماله . إذا ضاع هذا المال ولم يبق للسفيه من ماله ما ينفق منه عليه
ثانيها : أن هؤلاء السفهاء إذا رشدوا وأموالهم محفوظة لهم ، وتصرفوا فيها تصرف الراشدين ، وأنفقوا منها في الوجوه الشرعية من المصالح العامة والخاصة ، فإنه يصيب هؤلاء الأولياء حظ منها .
ثالثا : التكافل في الأمة ، واعتبار مصلحة كل فرد من أفرادها عين مصلحة الآخرين ، كما قلناه في آيات أخرى .
وذهب ( الجلال ) إلى أنه أضاف الأموال إليهم لأنها في أيديهم كأنه قال : ولا تؤتوا السفهاء أموالهم التي في أيديكم - وهو غير ظاهر - وما قال من قال : إن السفهاء هنا هم أولاد المخاطبين الصغار إلا لحيرته في هذه الكاف في قوله : أموالكم وقوله : لكم وعدم ظهور النكتة له في إيثار ضمير الخطاب على ضمير الغيبة .
أقول : وأجاب الرازي بجوابين تبعا ، أحدهما : أنه أضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه بل لأنهم ملكوا التصرف فيه ، قال : ويكفي لحسن الإضافة أدنى سبب ، وهو الذي جرى عليه الجلال . ثانيهما قوله : إنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص ، ونظيره قوله - تعالى - : للزمخشري لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ 9 : 128 ] وقوله : فمن ما ملكت أيمانكم [ 4 : 25 ] وقوله : فاقتلوا أنفسكم [ 2 : 54 ] وقوله : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم [ 2 : 85 ] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ، وإنما كان بعضهم يقتل بعضا وكان الكل من نوع واحد ، فكذا هاهنا المال شيء واحد ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه ; فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم اهـ .
أقول : وهذا أوسع مما قاله الأستاذ الإمام في الأمر الثالث ، وهو غير ظاهر في النوع [ ص: 312 ] كما هو ظاهر في قوم المخاطبين الذين اتحدت مصالحهم بمصالحهم ، وكذلك لا يظهر في النظائر ، والشواهد التي أوردها ، فإن الذين أمروا بقتل ، أي قتل بعضهم بعضا لم يؤمروا بذلك لاشتراكهم في النوع ، وهو كونهم من البشر ، وإنما أمروا بذلك لأنهم أمة لها ملة ترتبط بها مصالحهم فخالفوها فاستحقوا العقاب لتكافلهم باشتراكهم في الذنب ، وعدم التناهي عنه ، ولو أنهم قتلوا قوما آخرين من نوع البشر لما كانوا ممتثلين للأمر ، ولما قيل لهم ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم والراجح في قوله - تعالى - : لقد جاءكم رسول من أنفسكم إنه خطاب للعرب الذين هم قوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت البعثة عامة كما بينا ذلك في موضع آخر ومن قال إنه خطاب لجميع الناس فوجهه أنهم مشتركون في تكليفهم اتباعه وفي كونه رسولا إليهم .
فلا بد في إقامة الوحدة النوعية ، أو القومية ، أو الأهلية مقام الوحدة الشخصية من اشتراك أفراد النوع ، أو القوم ، أو الأهل في المعنى الذي سيق الكلام لأجله ، كما بينه الأستاذ الإمام في توجيه إسناد ما فعله بنو إسرائيل في زمن موسى - صلى الله عليه وسلم - إلى أبنائهم الذين كانوا في زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - لتأثير أعمال السلف في الخلف بالوراثة والقدوة ، ولو جعلت الوحدة في الآية التي نفسرها بين الأولياء ، والسفهاء وحدة القرابة والكفالة التي هي أخص من الوحدة الأمية ، والقومية التي قال بها الأستاذ الإمام لكان المعنى أظهر ، كما أن ما قاله هو أظهر مما قاله الإمام الرازي ، وذلك أن الاشتراك في المصلحة ، والمنفعة بين الأولياء ، والسفهاء في الأموال مطرد تظهر فيه الوحدة دائما ، ولكن الأستاذ الإمام جعلها من قبيل وحدة الأمة ، وتكافلها إلحاقا لها بنظائرها الكثيرة في القرآن .
وقد علم من تفسير المفردات معنى جعل الأموال قياما للناس تقوم وتثبت بها منافعهم ومرافقهم ، ولا يمكن أن يوجد في الكلام ما يقوم مقام هذه الكلمة ، ويبلغ ما تصل إليه من البلاغة في الحث على الاقتصاد ، وبيان فائدته ومنفعته ، الذي هو شأن السفهاء ، وبيان غائلته وسوء مغبته ; فكأنه قال : إن منافعكم ومرافقكم الخاصة ومصالحكم العامة لا تزال قائمة ثابتة ما دامت أموالكم في أيدي الراشدين المقتصدين منكم الذين يحسنون تثميرها وتوفيرها ، ولا يتجاوزون حدود المصلحة في إنفاق ما ينفقونه منها ، فإذا وقعت في أيدي السفهاء المسرفين الذين يتجاوزون الحدود المشروعة ، والمعقولة يتداعى ما كان من تلك المنافع سالما ، ويسقط ما كان من تلك المصالح قائما ، فهذا الدين هو دين الاقتصاد والاعتدال في الأموال كالأمور كلها ; ولذلك وصف الله - تعالى - المؤمنين بقوله : [ ص: 313 ] والتنفير عن الإسراف ، والتبذير والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ 25 : 67 ] فهذه الآية شارحة للفظ قياما في الآية التي نفسرها ، وقد نهانا القرآن عن التبذير حتى في مقام الإنفاق والتصدق المؤكد وجعل المبذر كالشيطان مبالغا في الكفر ، وبين سوء عاقبة المتوسع في النفقة إلى حد الإسراف كما في آيات 26 - 29 من السورة 17 ( الإسراء ) .
وفي الأحاديث النبوية مثل ذلك فمنها رواه ما عال من اقتصد أحمد عن . وهو حديث حسن - ابن مسعود ، رواه " الاقتصاد نصف المعيشة ، وحسن الخلق نصف الدين " الخطيب عن أنس ، ، والطبراني والبيهقي عن بلفظ : ابن عمر ، وغيرهم بألفاظ أخرى : " الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة والتودد إلى الناس نصف العقل ، وحسن السؤال نصف العلم " رواه " من فقه الرجل رفقه في معيشته " أحمد ، ، عن والطبراني ، وهو حديث حسن - أبي الدرداء إلخ . رواه " من اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله " البزار ، عن أبي طلحة وسنده ضعيف .
ومن الأحاديث في فضل الغني حديث سعد المتفق عليه : وحديثه عند " إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " مسلم : ، وحديث " إن الله يحب العبد التقي الغني الحفي " في الصحيحين حكيم بن حزام إلخ . وحديث خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى عند عمرو بن العاص أحمد بسند صحيح وحديث نعما المال الصالح للمرء الصالح أنس عند مسلم ، والبيهقي كاد الفقر أن يكون كفرا .
فإذا جرى لنا نحن المسلمين بعد هذه الوصايا ، والحكم حتى صرنا أشد الأمم إسرافا ، وتبذيرا ، وإضاعة للأموال ، وجهلا بطرق الاقتصاد فيها ، وتثميرها ، وإقامة مصالح الأمة بها في هذا الزمن الذي لم يسبق له نظير في أزمنة التاريخ من حيث توقف قيام مصالح الأمم ، ومرافقها ، وعظمة شأنها على المال حتى إن الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد ، التي ليس في أيديها مال كثير قد صارت مستذلة ، ومستعبدة للأمم الغنية بالبراعة في الكسب ، والإحسان في الاقتصاد ؟
وماذا جرى لتلك الأمم التي يقول لها كتابها الديني كما في إنجيل متى " ( 19 : 23 ) إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات [ 24 ] وأقول لكم أيضا إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله " ، ويقول كما في ( 6 : 24 ) منه : " لا تقدرون أن تخدموا لله والمال [ 25 ] لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم " إلخ . وفي ( 10 : 9 ) منه : " لا تقتنوا ذهبا ولا فضة " - ماذا جرى لها في دينها حتى صارت أبرع الخلق في فنون الثروة ، والاقتصاد ، وأبعدها عن الإسراف ، والتبذير ، وسادت بالغنى والثروة على جميع أمم الأرض ؟ ألا وهي أمم الإفرنجة .
[ ص: 314 ] وكيف جاز أن يسمى ما نحن عليه مدنية إسلامية مع مخالفتنا للقرآن في هذا الأمر الذي هو قوام المدنية ، كما خالفه جماهيرنا في أكثر ما أرشد إليه ؟ وكيف جاز أن تسمى مدنيتهم مدنية مسيحية مع بناء تعاليم المسيح على المبالغة في الزهد وبغض المال ، كما هو صريح في هذه الأناجيل التي بين أيدي القوم يدعون اتباعها ، ويدعون إليها غيرهم ، وهم لها مخالفون ، وعنها معرضون ! ! !
أما السبب فيما نحن عليه من سوء الحال في دنيانا ، ومخالفة نص كتابنا فهو ظاهر معروف عند الباحثين ، وهو أننا أخذنا بالتقليد الذي حرمه الله علينا ، وتركنا هداية القرآن ، ونبذناه وراء ظهورنا ، وأخذنا في الأخلاق ، والآداب التي هي روح حياة الأمم بأقوال فلان وفلان من الجاهلين ، الذين لبسوا علينا بلباس الصالحين ، فنفثوا في الأمة سموم المبالغة في التزهيد ، والحث على إنفاق جميع ما تصل إليه اليد ، وإنما كان يريد أكثرهم إنفاق كسب الكاسبين عليهم ، وهم كسالى لا يكسبون ، لزعمهم أنهم بحب الله مشغولون !
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها أفاويق حتى ما تدر لها ثعل
حتى صار من المعروف المقرر عند جميع شعوب المسلمين إدرار المال والرزق على علماء الدين ، وشيوخ الطريق " الصالحين " ، فهم يأكلون مال الأمة بدينهم ، ويرون أن لهم الفضل عليها بقبوله منها ، وإن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصحيحين : . اليد العليا خير من اليد السفلى
الأستاذ الإمام : في هذه الجملة من الآية تحريض على حفظ المال ، وتعريف بقيمته ، ، وكان السلف من أشد الناس محافظة على ما في أيديهم ، وأعرف الناس بتحصيل المال من وجوه الحلال ، فأين من هذا ما نسمعه من خطباء مساجدنا من تزهيد الناس وغل أيديهم ، وإغرائهم بالكسل والخمول ، حتى صار المسلم يعدل عن الكسب الشريف إلى الكسب المرذول من الغش ، والحيلة ، والخداع ; ذلك أن الإنسان ميال بطبعه إلى الراحة ، فعندما يسمع من الخطباء ، والعلماء ، والمعروفين بالصلحاء عبارات التزهيد في الدنيا فإنه يرضي بها ميله إلى الراحة ، ثم إنه لا بد له من الكسب فيختار أقله سعيا ، وأخفه مؤنة ، وهو أخسه ، وأبعده عن الشرف ، على أن هذا التزهيد في الدنيا من هؤلاء لم يأت بما يساق لأجله من الترغيب في الآخرة ، والاستعداد لها ، بل إن خطباءنا ، ووعاظنا قد زهدوا الناس في الدنيا وقطعوهن عن الآخرة فخسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين ، وما ذلك إلا لجهلهم وعدم عملهم بما يعظون به غيرهم ، والواجب على المسلم العارف بالإسلام أن يبين للناس الجمع بين الدنيا والآخرة . فلا يجوز للمسلم أن يبذر أمواله