والإحسان في المعاملة يعرفه كل أحد ، وهو يختلف باختلاف أحوال الناس وطبقاتهم ، وإن العامي الجاهل ليدري كيف يحسن إلى والديه ويرضيهما ما لا يدري العالم النحرير إذا أراد أن يحدد له ذلك ، قال بعضهم : إن جماع الإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما ، وأن يسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر سعته ، وأنت تعلم أن من فعل ذلك وهو لا يلقاهما إلا عابسا مقطبا ، أو أدى النفقة التي يحتاجان إليها ، وهو يظهر الفاقة والقلة فإنه لا يعد محسنا بهما ، فالتعليم الحرفي لا يحدد الإحسان المطلوب من كل أحد ، بل العمدة فيه اجتهاد المرء وإخلاص قلبه في تحري ذلك بقدر طاقته ، وحسب فهمه ، لأكمل الإرشاد الإلهي التفصيلي في ذلك بقوله عز وجل : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ( 17 : 23 - 25 ) ، فأنت ترى الرب العليم الحكيم الرحيم قد قفى هذه الوصية البليغة الدقيقة ببيان أن العبرة بما في نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه ، وأن التقصير مع هذا مرجو الغفران ، وقد فصل بعض العلماء القول في ذلك في " الإحياء " ، كالغزالي في " الزواجر " . وابن حجر
قال الأستاذ الإمام : الخطاب لعموم الأفراد ، أي : ليحسن كل لوالديه ، وذلك أنهما السبب الظاهر في وجود الولد بما بذلا من الجهد والطاقة في تربيته بكل رحمة وإخلاص ، وقد بينت كتب الأحكام الظاهرة ما للوالدين من حقوق النفقة ، وبينت كتب الدين جميع الحقوق ، والمراد بكتب الدين كتب آدابه " كالإحياء " ويجمع هذه الحقوق كلها آيتا سورة الإسراء ـ وذكرهما وتكلم عليهما قليلا . للغزالي
وأقول : إن هاهنا مسألة مهمة ، قلما تجد أحدا من علمائنا بينها كما ينبغي ، وهو أن بعض الوالدين يتعذر إرضاؤهما بما يستطيعه أولادهما من الإحسان ، بل يكلفون الأولاد ما لا طاقة لهم به ، وما أعجب حكمة الله في خلق هذا الإنسان ، قلما تجد ذا سلطة لا يجور ولا يظلم في سلطته حتى الوالدين على أولادهما ، وهما اللذان آتاهم الفاطر من الرحمة الفطرية ما لم يؤت سواهما ، قد تظلم الأم ولدها قليلا مغلوبة لبادرة الغضب ، أو طاعة لما يعرض من أسباب الهوى ، كأن تتزوج رجلا تحبه وهو يكره ولدها من غيره ، وكأن يقع التغاير بينها وبين امرأة ولدها ، وتراه شديد الحب لامرأته يشق عليه أن يغضبها لأجل مرضاتها هي ، ففي مثل هذه الحال [ ص: 70 ] قلما ترضى الأم بالعدل وتعذر ولدها في خضوعه لسلطان الحب ، وإن هو لم يقصر فيما يجب لها من البر والإحسان ، بل تأخذها عزة الوالدية ، حتى تستل من صدرها حنان الأمومة ، ويطغى في نفسها سلطان استعلائها على ولدها ، ولا يرضيها إلا أن يهبط من جنة سعادة الزوجية لأجلها ، وربما تلتمس له في مثل هذه الحال زوجا أخرى ينفر منها طبعه ، وما حيلته وقد سلب منه قلبه ، كما أنها تظلمه من أول الأمر بمثل هذا الاختيار ، وظلم الآباء فيه أشد من ظلم الأمهات ، ولا تجب طاعة الوالدين في مثل هذا ، ويا ويح الولد الذي يصاب بمثلهما ، ولا سيما إذا كانا جاهلين بليدين يتعذر إقناعهما .
ولعلك إذا دققت النظر في أخبار البشر لا تجد فيها أغرب من تحكم الوالدين في تزويج الأولاد بمن يكرهون ، أو إكراههم على تطليق من يحبون ، ثبت في الهدي النبوي الشريف " أن الثيب من النساء أحق بنفسها " ، فليس لأبيها ولا لغيره من أوليائها أن يعقدوا لها إلا على من تختاره وترضاه لنفسها ; لأنها لممارستها الرجال تعرف مصلحتها ، وأن البكر على حيائها وغرارتها ، وعدم اختبارها وعلم ما يعلم الأب الرحيم من مصلحتها ، يجب أن تستأذن في العقد عليها ، ويكتفى من إذنها بصماتها ، وظاهره أنها إذا لم تظهر الرضى بل صرحت بعدمه لا يجوز العقد عليها ، ومن قال من الفقهاء : إن الأب ولي مجبر كالشافعية اشترطوا في صحة تزويجه لابنته بدون إذنها أن يكون الزوج كفؤا لها ، وأن يكون موسرا بالمهر حالا ، وألا يكون بينها وبينه عداوة ظاهرة ولا خفية ، وألا يكون بينها وبين الولي العاقد عداوة ظاهرة ، فهذا قولهم في العذراء المخدرة ، وأما الرجل فهو أحق من أبيه بتزويج نفسه إجماعا وليس لأبيه ولاية عليه في ذلك ، فكيف يتحكم الوالد في ولده بما لا يحكم به الشرع ولا ترضى به الفطرة ؟ أليس هذا من ظلم الاستعلاء الذي يوهم الرجل أن ابنه كعبده ، يجب ألا يكون له معه رأي ، ولا اختيار في أمره ، لا في حاضره ولا في مستقبله الذي يكون عليه بعده ، وإن كان الوالد جاهلا بليدا ، والولد عالما رشيدا ، وعاقلا حكيما ؟ والويل كل الويل للولد إذا كان والده الجهول الظلوم غنيا ، وكان هو معوزا فقيرا ، فإن والده يدل عليه حينئذ بسلطتين ، ويحاربه بسلاحين ، لا يهولنك أيها السعيد بالأبوين الرحيمين ما أذكر من ظلم بعض الوالدين الجاهلين القساة ، فإني أعلم من أمر الناس ما لا تعلم ، إني لأعرف ما لا تعرف من أخبار الأمهات اللواتي تحكمن في أمر زواج بناتهن أو أبنائهن تحكما كان سبب المرض القتال ، والداء العضال ، فالموت الزؤام ، ثم ندمن ندامة الكسعى ولات ساعة مندم ، ولعلك تعلم أن تحكم الآباء في ذلك أشد وأضر ، وأدهى وأمر ، على أنه أكثر .
ومن ضروب ظلم الوالدين الجاهلين للولد العاقل الرشيد : منعه من استعمال مواهبه في ترقية نفسه في العلوم والأعمال ، ولا سيما إذا توقف ذلك على السفر والترحال ، والأمثلة [ ص: 71 ] والشواهد على هذا كثيرة جدا في كل زمان ومكان ، وأول ما خطر في بالي منها عند الكتابة الآن اثنان : شاب عاشق للعلم كان أبوه يمنعه منه ليشتغل بالتجارة التي ينفر منها لتوجه استعداده إلى العلم ، ففر من بلده إلى قطر آخر ، ثم إلى قطر آخر ، يركب الأهوال ، ويصارع أنواء البحار ، ويعجم عود الذل والضر ، ويذوق طعوم الجوع والفقر ، ورجل دعي إلى دار خير من داره ، وقرار أشرف من قراره ، ورزق أوسع من رزقه ، في عمل أفضل من عمله ، وأمل في الكمال أعلى من سابق أمله ، ورجاء في ثواب الله أعظم من رجائه ، فاستشرفت له نفسه ، واطمأن به قلبه ، ولكن والدته منعته أن يجيب الدعوة ويقبل النعمة ، لا حبا فيه ، فإنها لا تستطيع أن تماري في أن ذلك خير له ، ولكن حبا في نفسها ، وإيثارا للذتها وأنسها ، نعم إن العجوز ألفت بيتها ومن تعاشر في بلدها من الأهل والجيران ، فآثرت لذة البيئة الدنيا لنفسها ، على المنفعة العليا لولدها ، ولعله لو اختار الظعن لاختارت الإقامة ، وفضلت فراقه على صحبته ، وبعده على قربه ، ونبزته بلقب العاق ، وادعت أنها لم تتعد حدود الرحمة والحنان ، ووافقها الجمهور الجاهل على ذلك لبنائه الأحكام على المسلمات ، ومنها أن الأولاد هم الذين يؤثرون أهواءهم على بر والديهم ، وأن الوالدين لا يختاران لولدهما إلا ما فيه الخير له ، وأنهما يتركان كل حظوظهما ورغائبهما لأجله ، ولا ينكر أحد أن لهذا أصلا صحيحا ، ولكنه ليس من القضايا الكلية الدائمة ، أما الأم فذلك شأنها مع الطفل إلا ما تأتي به بوادر الغضب من لطمة خفيفة تسبق بها اليد من غير روية واختيار ، أو دعوة ضعيفة تعد من فلتات اللسان ، ولسان حالها ينشد :
أدعو عليه وقلبي يقول : يا رب لا لا
فإذا كبر وصار له رأي غير رأيها ، وهوى غير هواها ـ وذلك ما لا بد منه ـ تغير شأنها معه ، وهي أشد الناس حبا له ، فلا ترجح رأيه وهواه في كل مسائل الخلاف ، بل لا تعذره أيضا في كل ما يتبع فيه وجدانه ، ويرجح فيه استقلاله ، وأما الأب فهو على فضله وعنايته بأمر ولده أضعف من الأم حبا ورحمة وإيثارا ، وأشد استنكارا لاستقلال ولده دونه واستكبارا ، حتى إنه ليقسو عليه ويؤذيه ، ويشمت به ويحرمه من ماله ويؤثر الأجانب عليه ، وأكثر ما يكون ذلك من الأب الغني مع ولده المحتاج إذا خالف هواه : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ( 96 : 6 ، 7 ) ، وإن طغيانه يكون على حسب ما يرى لنفسه من السلطة والفضل والاستعلاء حتى إنه لينتحل لنفسه صفات الربوبية ، ويتسلق بغروره إلى ادعاء الألوهية : وقد كنت أنكر على أبي الطيب قوله :والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
إنما أطلت في هذا ؛ لأن الناس غافلون عنه ، فهم يظنون أن وصايا الوالدين حجة ، على أن للوالدين أن يعبثا باستقلال الولد ما شاء هواهما ، وأنه ليس للولد أن يخالف رأي والديه ولا هواهما ، وإن كان هو عالما وهما جاهلين بمصالحه ، وبمصالح الأمة والملة ، وهذا الجهل الشائع مما يزيد الآباء والأمهات إغراء بالاستبداد في سياستهم للأولاد فيحسبون أن مقام الوالدية يقتضي بذاته أن يكون رأي الولد وعقله وفهمه دون رأي والديه وعقلهما وفهمهما ، كما يحسب الملوك والأمراء المستبدون أنهم أعلى من جميع أفراد رعاياهم عقلا وفهما ورأيا ، أو يحسب هؤلاء وأولئك أنه يجب ترجيح رأيهم ، وإن كان أفينا على رأي أولادهم ورعاياهم وإن كان حكيما .
إذا طال الأمد على هذا الجهل الفاشي في أمتنا فإن الأمم التي تربي أولادها على الاستقلال الشخصي تستعبد من بقي من شعوبنا خارجا عن محيط سلطتها قبل أن ينقضي هذا الجهل .
يجب أن نفهم أن الإحسان بالوالدين الذي أمرنا به في دين الفطرة هو أن نكون في غاية الأدب مع الوالدين في القول والعمل بحسب العرف حتى يكونا مغبوطين بنا ، وأن نكفيهما أمر ما يحتاجان إليه من الأمور المشروعة المعروفة بحسب استطاعتنا ، ولا يدخل في ذلك شيء من سلب حريتنا واستقلالنا في شئوننا الشخصية والمنزلية ، ولا في أعمالنا لأنفسنا ولملتنا ولدولتنا ، فإذا أراد أحدهما أو كلاهما الاستبداد في تصرفنا فليس من البر ولا من الإحسان شرعا أن نترك ما نرى فيه الخير العام أو الخاص ، أو نعمل ما نرى فيه الضر العام أو الخاص ، عملا برأيهما واتباعا لهواهما ، من سافر لطلب العلم الذي يرى أنه واجب عليه لتكميل نفسه ، أو خدمة دينه أو دولته ، أو سافر لأجل عمل نافع له أو لأمته ، ووالداه أو أحدهما غير راض ; لأنه لا يعرف قيمة ذلك العمل ، فإنه لا يكون عاقا ولا مسيئا شرعا ولا عقلا ، هذا ما ينبغي أن يعرفه الوالدون والأولاد : البر والإحسان لا يقتضيان سلب الحرية والاستقلال .
أرأيت لو كانت أمهات سلفنا الأماجد كأمهاتنا أكانوا فتحوا الممالك ، وفعلوا هاتيك العظائم ؟ كلا ، بل كانت الأسيفة الرقيقة القلب منهن كتماضر الخنساء رضي الله عنها تدفع بنيها الأربعة إلى القتال في سبيل الله وترغبهم فيه بعبارات تشجع الجبان ، بل تحرك الجماد ، فقد [ ص: 73 ] روى عن ابن عبد البر أنها شهدت حرب الزبير بن بكار القادسية ، ومعها أربعة بنين لها فقالت لهم من أول الليل : يا بني إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد ، كما أنكم بنو امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ، ولا غيرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين ، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية ، ويقول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ( 3 : 200 ) ، فإذا أصبحتم إن شاء الله سالمين ، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها ، واضطرمت لظى على سباقها ، وجللت نارا على أرواقها ، فيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها ، تظفروا بالغنم ، والكرامة في دار الخلد والمقامة ، فلما كان القتال في الغد كان يهجم كل واحد منهم ويقول شعرا يذكر فيه وصية العجوز ويقاتل حتى يقتل ، فلما بلغها خبر قتلهم كلهم قالت : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم ، وأرجو ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته ، ولو شئت أن أروي لك مثل خبرها عن وغيرها لفعلت ، أفترى هذه الأمة تعتبر اليوم بسيرة سلفها ، وهي لم تعتبر بما بين يديها ، وأمام عينيها ، وما يتلى كل يوم عليها من أحوال الأمم التي كانت دونها في العلم والقوة ، والعزة والثروة ، فأصبحت منها في موقع النجم ، تشرف عليها من سماء العظمة بالأمر والنهي ، ومنشأ ذلك كله الاستقلال الشخصي في الإرادة والعقل ; فإن الآباء والأمهات متفقون فيها على تربية أولادهم على استقلال العقل والفهم في العلم ، واستقلال الإدارة في العمل ، فقرة أعينهم أن يعمل أولادهم بإرادة أنفسهم واختيارهم ما يعتقدون أنه هو الخير لهم ولقومهم . أم عبد الله بن الزبير
وإنما قرة أعين أكثر آبائنا وأمهاتنا أن ندرك بعقولهم لا بعقولنا ، ونحب ونبغض بقلوبهم لا بقلوبنا ، ونعمل أعمالنا بإرادتهم لا بإرادتنا ، ومعنى ذلك ألا يكون لنا وجود مستقل في خاصة أنفسنا ، فهل تخرج هذه التربية الاستبدادية الجائرة أمة عزيزة عادلة ، مستقلة في أعمالها ، وفي سياستها وأحكامها ؟ أم البيوت هي التي تغرس فيها شجرة الاستبداد الخبيثة للملوك والأمراء الظالمين ، فيجنون ثمراتها الدانية ناعمين آمنين ؟ فعليكم يا علماء الدين والأدب أن تبينوا لأمتكم في المدارس والمجالس حقوق الوالدين على الأولاد ، وحقوق الأولاد على الوالدين ، وحقوق الأمة على الفريقين ، ولا تنسوا قاعدتي الحرية والاستقلال ، فهما الأساس الذي قام عليه بناء الإسلام ، وإن علماء الشعوب الشمالية التي سادت في [ ص: 74 ] هذا العصر علينا ، يعترفون بأنهم أخذوا هاتين المزيتين ـ استقلال الفكر والإرادة ـ عنا وأقاموا بناء مدنيتهم عليهما ، ولله در القائل منا : " لاعب ولدك سبعا وأدبه سبعا ، وصاحبه سبعا ، ثم اجعل حبله على غاربه " وسنعود إلى هذه المسألة إن شاء الله تعالى .