وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ، قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة وإيضاح : أي ما الذي كان يصيبهم من الضرر لو آمنوا وأنفقوا ؟ وهذا الكلام موجه إلى جميع المكلفين المخاطبين بالقرآن ، وكان أكثر العرب يؤمنون قبل البعثة [ ص: 84 ] بالله تعالى وكونه هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ، ومنهم من كان يؤمن بحياة أخرى بعد الموت وكانوا مع ذلك مشركين وإيمانهم على غير الوجه الصحيح ، وكذلك أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله ، وباليوم الآخر ، ولكن الشرك كان قد تغلغل فيهم أيضا ، فالمراد الإيمان الصحيح مع الإذعان الذي يظهر أثره في العمل ، و لو على معناها وجوابها محذوف دل عليه ما قبله من الاستفهام ، والكلام مسوق مساق التعجب من حالهم في إنفاق المال ، وعمل الإحسان لوجه الله عز وجل وابتغاء رضوانه وثوابه في الآخرة ، والمراد من التعجب إثارة عجب الناس من حالهم ; إذ لو أخلصوا لما فاتتهم منفعة الدنيا ، ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى ، وكثيرا ما يفوت المرائي غرضه من التقرب إلى الناس وامتلاك قلوبهم وتسخيرهم لخدمته أو الثناء عليه ، ويفوز بذلك المخلص الذي يخفي العمل من حيث لا يطلبه ولا يحتسبه ، ففي هذه الحالة يكون للمخلص سعادة الدارين ، ويرجع المرائي بخفي حنين ، بل يكون قد خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين ، فجهل المرائين جدير بأن يتعجب به ; لأنه جهل بالله وجهل بأحوال الناس ، ولو آمنوا وأخلصوا وأحسنوا ووثقوا بوعد الله ووعيده لكان هذا الإيمان كنز سعادة لهم ، فإن من يحسن موقنا أن المال والجاه من فضل الله على العبد ، وأنه ينبغي أن يتقرب بهما إليه تعلو همته فتهون عليه المصاعب والنوائب ، ويكون هذا الإيمان الصحيح عوضا له من كل فائت ، وسلوى في كل مصاب ، وفاقد الإيمان الحقيقي عرضة للغم واليأس من كل خير عندما يرى خيبة أمله ، وكذب ظنه في الناس ، فإذا وقع في مصاب عظيم كفقد المال ولا سيما إذا ذهب كل ماله وأمسى فقيرا ، ولم ينقذه الناس ولا بالوا به ، فإن الغم والقهر ربما أماتاه جزعا لا صبرا ، وربما بخع نفسه وانتحر بيده ; ولذلك يكثر الانتحار من فاقدي الإيمان ، وأما المؤمن فإن أقل ما يؤتاه في المصائب هو الصبر والسلوى فيكون وقع المصيبة على نفسه أخف ، وثواء الحزن في قلبه أقل ، وأكثره أن تكون المصيبة في حقه رحمة ، وتتحول النقمة فيها نعمة ، بما يستفيد فيها من الاختبار والتمحيص ، وكمال العبرة والتهذيب ( أقول : وقد بينا هذا في تفسير آيات من سورة آل عمران ولا سيما قوله تعالى : قد خلت من قبلكم سنن 3 : 137 ] ، إلى الآية 141 فتراجع من [ ص 114 - 126 من جزء التفسير الرابع ] ، إن النعم الباطنة هي المصائب التي يستفيد منها المؤمن زيادة الإيمان والاعتبار ) على أن المؤمنين المحسنين المخلصين يكونون أبعد عن النوائب والمصائب من غيرهم ، وقد يبتلي الله المؤمن ويمتحن صبره فيعطيه إيمانه من الرجاء بالله تعالى ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها أحيانا ، وإن من الناس [ ص: 85 ] من يعظم رجاؤه بالله وصبره على حكمه ورضاه بقضائه ، واعتقاده أنه ما ابتلاه إلا ليربيه ويعظم أجره حتى إنه ليأنس بالمصيبة ويتلذذ بها ، وهذا قليل نادر ولكنه واقع .