هذا ضرب آخر مما ذكر الله - تعالى - به بني إسرائيل في سياق دعوتهم إلى الإسلام .
قال صاحب الكشاف . كانوا قوما فلاحة فنزعوا إلى عكرهم ، فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء ا هـ . وقال الأستاذ الإمام في تفسيره ونقده ورده ما نصه : فلاحة بتشديد اللام جمع فلاح بمعنى الزراع ، وعكرهم بكسر العين أصلهم ، وأجم الطعام من باب ضرب وعلم كرهه من المداومة عليه . وهو بيان لما بعثهم على أن يسألوا موسى أن يدعو ربه ليخرج لهم تلك الأشياء التي طلبوها ، والسبب في جهرهم بذلك وثورتهم عليه ، كأنه يقول : إن الحامل لهم على ذلك هو تمكن العادة من نفوسهم ، فلما خرجوا منها وجاءهم ما لم يكونوا يألفون نزعوا إلى ما كانوا قد عودوه من قبل . ولو كان الأمر كما قال لكان في ذلك التماس عذر لهم ، ولما عد الله هذا القول في خطاياهم ، بل إن إلا ما شذ منها لعادة أو ضرورة ، ولا يعد ما هو من منازع الطباع جرما إذا لم يسقط ذلك في محظور . وسياق الآيات قبلها وما يلحق بعد ذلك من قوله - تعالى - : ( السآمة من تناول طعام واحد قد يكون من لوازم الطباع البشرية وإذ أخذنا ميثاقكم ) ( 2 : 63 ) . . . إلخ ، كل ذلك يدل على أن ما عدد من أفاعيلهم مع تضافر الآيات بين أيديهم وتوارد نعم الله عليهم كله من خطاياهم . ومن ذلك قوله - تعالى - : ( وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) ويؤكد ذلك إيراد تلك العقوبة الشديدة من ضرب الذلة والمسكنة واستحقاق غضب الله - تعالى - عقب مقالهم هذا .
والذي يقع عليه الفهم من الآية أن النزق قد استولى على طباعهم وملك البطر أهواءهم حتى كانوا يستخفون بذلك الأمر العظيم الذي هيأهم الله له من التمكن في الأرض الموعودة ، والخروج من الخسف الذي كانوا فيه . ومع كثرة ما شاهدوا من آيات الله القائمة على صدق [ ص: 274 ] وعده لهم ، لم تستيقنه أنفسهم ، بل كانوا على ريب منه ، وكانوا يظنون أن موسى - عليه السلام - خدعهم بإخراجهم من مصر وجاء بهم في البرية ليهلكهم ؛ فلذلك دأبوا على إعناته والإكثار من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع ، حتى ييأس منهم فيرتد بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة ، ولهم مطمع في العيش وأمل في الخلاص من الهلكة ، مما ذكره الله عنهم في هذه الآية على حد قولهم ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) ويرشد إلى ما فيه من الإعنات قولهم : ( لن نصبر على طعام واحد ) ، فقد عبر عن مسألتهم بما فيه حرف النفي الذي يأتي لسلب الفعل في مستقبل الزمان مع تأكيده ، فكأنهم قالوا : اعلم أنه لم يبق لك أمل في بقائنا معك على هذه الحالة من التزام طعام واحد ، فإن كانت لك منزلة عند الله كما تزعم فادعه يخرج لنا ما يمكن معه أن نبقى معك ؛ إلى أن يتم الوعد الذي وعدك ووعدتنا - وهم يعلمون أنهم كانوا في برية غير منبتة ، وربما لم يكن قولهم هذا عن سآمة ولا أجم من وحدة الطعام ، ولكنه نزق وبطر كما بينا ، وطلب للخلاص مما يخشون على أنفسهم . ويؤيد ذلك ما هو معروف في أخبارهم . ووصفوا الطعام بالواحد مع أنه نوعان - المن والسلوى - لأنهما طعام كل يوم ، والعرب تقول لمن يأكل كل يوم عدة ألوان لا تتغير : إنه يأكل من طعام واحد ، كأنهم ينظرون إلى أن مجموع الألوان هي غذاؤه الذي لا يتغير ، فهي غذاء واحد ، فإذا تغيرت الألوان تغير نوع الغذاء فكان طعاما متعددا .
والبقل من النبات : ما ليس بشجر دق ولا جل كما ذكره ابن سيده . وقال أبو حنيفة : ما ينبت في بزره ولا ينبت في أرومة ثابتة . وفرق ما بين البقل ودق الشجر أن البقل إذا رعي لم يبق له ساق ، والشجر تبقى له سوق وإن دقت . وأرادوا من البقل ما يطعمه الإنسان من أطايب الخضر كالكرفس والنعناع ونحوهما مما يغري بالقضم ، ويعين على الهضم ، والقثاء : هي أخت الخيار ، تسميها العامة " القتة " والعدس والبصل معروفان ، والفوم هو : الحنطة .
وقال وجماعة هو : الثوم . أبدلت الثاء فاء كما في جدث وجدف . وطلبهم للحنطة هو طلبهم للخبز الذي يصنع منها . ( قال ) الكسائي موسى - عليه السلام - تقريعا لهم على أشرهم وإنكارا لتبرمهم : ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ؟ أي أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المن والسلوى ؟ والمن فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية ، والسلوى من أطيب لحوم الطير ، وفي مجموعها غذاء تقوم به البنية ، وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة وتغذية .
أقول : والأدنى في اللغة الأقرب ، واستعير للأخس والأدون ، كما استعير البعد للرفعة ، والاستبدال طلب شيء بدلا من آخر ، والباء تدخل المبدل منه المراد تركه . ثم قال : ( اهبطوا مصرا ) من الأمصار ( فإن لكم ما سألتم ) أي فإنكم إن هبطتموه ونزلتموه وجدتم فيه ما سألتم .
[ ص: 275 ] أما هذه الأرض التي قضى الله أن تقيموا فيها إلى أجل محدود ، فليس من شأنها أن تنبت هذه البقول ، وأن الله - جل شأنه - لم يقض عليكم بالتيه في هذه البرية إلا لجبنكم وضعف عزائمكم عن مغالبة من دونكم من أهل الأمصار ، فلو صح ما تزعمون من كراهتكم للطعام الواحد ، فأنتم الذين قضيتم على أنفسكم بما فرط منكم . فإن أردتم الخلاص مما كرهتم ، فأقدموا على محاربة من يليكم من سكان الأرض الموعودة ، فإن الله كافل لكم النصر عليهم ، وعند ذلك تجدون طلبتكم ، فالتمسوا الخير في أنفسكم وفي أفعالكم ، فإن الله لا يضيع أجر العاملين .
قال - تعالى - : ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) الذلة والذل خلق خبيث من أخلاق نفس الإنسان يضاد الإباء والعزة ، وأصل المادة فيه معنى اللين . فالذل بالكسر : اللين ، وبالضم والكسر : ضد الصعوبة ، وإذا تتبعت المادة وجدتها لا تخلو من هذا المعنى . صاحب هذا الخلق لين ينفعل لكل فاعل ، ولا يأبى ضيم ضائم . غير أن هذا الخلق الذي يهون على النفس قبول كل شيء لا يظهر أثره غالبا على البدن وفي القول إلا عند الاستذلال والقهر . وكثيرا ما ترى الأذلاء تحسبهم أعزاء يختالون في مشيتهم من الكبرياء ، ويباهون بما لهم من سلف وآباء ، وربما فاخروا من لا يخشون سطوته من الكبراء :
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
ولكن متى شعر الذليل بنية من نفس القاهر ، أو طاف بذهنه خيال يد تمتد إليه استخذى واستكان ، وظهر السكون على بدنه ، واشتمل الخشوع على قوله وفعله ، وهذا الأثر الذي يسطع من النفس على البدن هو الذي يسمى المسكنة . وإنما سمي الفقر مسكنة ؛ لأن العائل المحتاج تضعف حركته ويذهب نشاطه ، فهو بعدم ما يسد عوزه كأنه يقرب من عالم الجماد ، فلا تظهر فيه حاجة الأحياء فيسكن . والمشاهدة ترشدنا إلى تحقيق ما عليه أهل المسكنة في أوضاع أعضائهم وما يبدو على وجوههم وما طبع في أقوالهم وأعمالهم . فضرب الذلة والمسكنة على اليهود هو جعل الذل وضعف العزيمة محيطين بهم كما تحيط القبة المضروبة بمن فيها .
أو إلصاقهما بطباعهم كما تطبع الطغرى على السكة ، ( وباءوا بغضب من الله ) أي رجعوا به كما يقال : رجع أو عاد بصفقة المغبون إذا كان ذلك آخر شوطه ومنتهى سعيه ، وكذلك كان آخر أطوار اليهود في بغيهم أيام ملكهم . والمراد به : فقد الملك وما يتبعه . وقال شيخنا : استحقوا غضبه ومن استحقه فقد أصابه ، فقد غضب الله عليهم ، وتنكير الغضب دلالة على أنه نوع عظيم من سخطه جل شأنه . ( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ) ( أقول ) أي ذلك العقاب بضرب الذلة والمسكنة وبالغضب الإلهي بسبب ما جروا عليه من الكفر [ ص: 276 ] بآيات الله . . . إلخ . فإنهم بإحراجهم لموسى - عليه السلام - وإعناتهم له في المطالب ، مع كثرة ما شاهدوا من العجائب ، وما أظهر الله من الغرائب ، وقد دلوا على أن لا أثر للآيات في نفوسهم ، فهم بها كافرون في الحقيقة . ونسيان الآيات وعدها كأن لم تكن يعده الكتاب العزيز كفرا كما قال شيخنا ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) مع أن الكتاب يحرم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عنهم إلا بحقه المبين فيه ، كل ذلك دل فيهم على طباع بعيدة عن الكرم ، وقلوب غلف دون الفهم ، ومن كان هذا شأنه فالأجدر به أن يكون ذليلا مقهورا ، ثم هو مهبط غضب الله ومحط نقمه ؛ لأنه أشد الناس كفرا لنعمه ، وقوله : ( بغير الحق ) مع أن قتل النبيين لا يكون إلا كذلك يزيد في شناعة حالهم ، ويصرح بأنهم لم يكونوا مخطئين في الفهم ، ولا متأولين للحكم ، بل ارتكبوا هذا الجرم العظيم عامدين ، وهم يعلمون أنهم بارتكابه مخالفون لما شرع الله - تعالى - لهم في كتاب دينهم . ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) قال الأستاذ : ذلك الذل وتلك الخلاقة بالغضب إنما لزماهم ؛ لأنهم عصوا الله فيما أمرهم أن يأخذوا به من الأحكام ؛ ولأنهم اعتدوا تلك الحدود التي حدها الله لهم في شرائع أنبيائهم ، وقد كانت تلك الأحكام والحدود هي الوسيلة لإخراجهم من الذل وتمكين العز والسلطان لهم في الأرض الموعودة ؛ لأنها كانت الكافلة بنظامهم ، الحافظة لبناء جماعتهم ، فإذا أهملوها فسدت ألفتهم ، وانهدم بناؤهم ، وأسرعت إليهم الذلة التي لم تكن فارقتهم إلا منهزمة من يدي سلطان الشريعة ، ولم يكن يصدها عنهم إلا معاقل النظام تحت رعايته ، ولزمتهم الذلة والمسكنة بعد هذا لزوم الطابع للمطبوع .
والمتبادر - وعده الأستاذ احتمالا - أن ترجع الإشارة في ( ذلك ) إلى الثاني أي الكفر بآيات الله وقتل النبيين . أي إن كفرهم وجراءتهم على النبيين بالقتل ، إنما منشؤهما عصيانهم واعتداؤهم حدود دينهم ؛ لأن الذي يدين بدين أو شريعة أيا كانت يتهيب لأول الأمر مخالفتها ، فإذا خالفها لأول مرة تركت المخالفة أثرا في نفسه ، وضعفت هيبة الشريعة في نظره ، فإذا عاد زاد ضعف سلطة الشريعة على إرادته ، ولا يزال كذلك حتى تصير المخالفة طبعا ورينا ، وينسى ما قام على الشريعة من دليل ، وما كان لها من سيطرة ، ويضرى بالعدوان ، كما يضرى الحيوان بالافتراس ، وكل عمل يسترسل فيه العامل تقوى ملكته فيه خصوصا ما اتبع فيه الهوى .