[ ص: 368 ] خاتمة أخرى
ينبغي النظر في ولا شك أن العرب تراعي في الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه ، أو تكون معه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائي للمسمى . وجه اختصاص كل سورة بما سميت به ،
ويسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها ، وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز ; كتسمية سورة " البقرة " بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة " البقرة " المذكورة فيها ، وعجيب الحكمة فيها ، وسميت سورة " النساء " بهذا الاسم ; لما تردد فيها من كثير من أحكام " النساء " ، وتسمية سورة " الأنعام " ; لما ورد فيها من تفصيل أحوالها ، وإن كان قد ورد لفظ " الأنعام " في غيرها إلا أن التفصيل الوارد في قوله تعالى : ومن الأنعام حمولة وفرشا ( الآية : 142 ) ، إلى قوله : أم كنتم شهداء ( الآية : 142 ) ، لم يرد في غيرها ; كما ورد ذكر النساء في سور إلا أن ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد في غير سورة " النساء " . وكذا سورة " المائدة " لم يرد ذكر " المائدة " في غيرها فسميت بما يخصها .
فإن قيل : قد ورد في سورة " هود " ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام ، فلم تختص باسم هود وحده ؟ وما وجه تسميتها به ، وقصة نوح فيها أطول وأوعب ؟ قيل : تكررت هذه القصص في سورة " الأعراف " ، وسورة " هود " ، و " الشعراء " بأوعب مما وردت في غيرها ، ولم يتكرر في واحدة من هذه السور الثلاث اسم " هود " - عليه السلام - كتكرره في هذه السورة ، فإنه تكرر فيها عند ذكر قصته في أربعة مواضع ، والتكرار من أقوى الأسباب التي ذكرنا .
وإن قيل : فقد تكرر اسم نوح في هذه السورة في ستة مواضع فيها ، وذلك أكثر من تكرار اسم هود . قيل : لما جردت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة برأسها ، فلم يقع فيها غير ذلك كانت أولى بأن تسمى باسمه - عليه السلام - من سورة تضمنت قصته وقصة غيره ، وإن تكرر اسمه فيها أما هود عليه السلام فلم تفرد لذكره سورة ولا تكرر اسمه مرتين فما فوقها في غير سورة هود ، فكانت أولى السور بأن تسمى باسمه - عليه السلام - .
[ ص: 369 ] واعلم أن تسمية سائر سور القرآن يجري فيها من رعي التسمية ما ذكرنا .
وانظر سورة ( ق ) لما تكرر فيها من ذكر الكلمات بلفظ القاف . ومن ذلك السور المفتتحة بالحروف المقطعة ، ووجه اختصاص كل واحدة بما وليته ، حتى لم تكن لترد الم في موضع الر ، ولا حم في موضع طس ; لا سيما إذا قلنا إنها أعلام لها ، وأسماء عليها .
وكذا وقع في كل سورة منها ما كثر ترداده فيما يتركب من كلمها ; ويوضحه أنك إذا ناظرت سورة منها بما يماثلها في عدد كلماتها وحروفها وجدت الحروف المفتتح بها تلك السورة إفرادا وتركيبا أكثر عددا في كلماتها منها في نظيرتها ومماثلتها في عدد كلمها وحروفها ; فإن لم تجد بسورة منها ما يماثلها في عدد كلمها ففي اطراد ذلك في المماثلات مما يوجد له النظير ما يشعر بأن هذه لو وجد ما يماثلها لجرى على ما ذكرت لك . وقد اطرد هذا في أكثرها ، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الوارد فيها ; فلو وضع موضع ق من سورة ن لم يمكن لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله تعالى ، وقد تكرر في سورة " يونس " من الكلم الواقع فيها : الر مائتا كلمة وعشرون أو نحوها ، فلهذا افتتحت بـ الر ، وأقرب السور إليها مما يماثلها بعدها من غير المفتتحة بالحروف المقطعة سورة " النحل " ، وهي أطول منها مما يركب على الر من كلمها مائتا كلمة ، مع زيادتها في الطول عليها ، فلذلك وردت الحروف المقطعة في أولها الر