[ ص: 500 ] شروطه :
وهذا الفن معرفته تحتاج إلى علوم كثيرة ، قال : " لا يقوم بالتمام إلا نحوي عالم بالقراءات ، عالم بالتفسير والقصص ، وتلخيص بعضها من بعض ، عالم باللغة التي نزل بها القرآن " وقال غيره : وكذا علم الفقه ، ولهذا : من لم يقبل شهادة القاذف وإن تاب وقف عند قوله : أبو بكر بن مجاهد ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ( النور : 4 ) .
فأما احتياجه إلى معرفة النحو وتقديراته ، فلأن من قال في قوله تعالى : ملة أبيكم إبراهيم ( الحج : 78 ) إنه منصوب بمعنى " كملة " ، أو أعمل فيها ما قبلها لم يقف على ما قبلها ومن نصبها على الإغراء وقف على ما قبلها .
وكذا على قوله : الوقف ولم يجعل له عوجا ( الكهف : 1 ) ثم يبتدئ ( قيما ) ; لئلا يتخيل كونه صفة له ; إذ العوج لا يكون قيما ، وقد حكاه ابن النحاس عن قتادة .
وهكذا الوقف على ما في آخره هاء ; فإنك في غير القرآن تثبت الهاء إذا وقفت ، وتحذفها إذا وصلت ، فتقول : قه وعه ، وتقول : ق زيدا ، وع كلامي ، فأما في القرآن من قوله تعالى : ( كتابيه ) ( الحاقة : 19 ) ، و ( حسابيه ) ( الحاقة : 20 ) ، و ( سلطانيه ) ( الحاقة : 29 ) ، و ( ماهيه ) ( القارعة : 10 ) ، و ( لم يتسنه ) ( البقرة : 259 ) ، و ( اقتده ) ( الأنعام : 90 ) ، وغير ذلك ، فالواجب أن يوقف عليه بالهاء ; لأنه مكتوب في المصحف بالهاء ولا يوصل ; لأنه يلزم في حكم العربية إسقاط الهاء في الوصل ; فإن أثبتها خالف العربية ، وإن حذفها خالف مراد المصحف ، ووافق كلام العرب ، وإذا هو وقف عليه خرج من الخلافين ، واتبع المصحف وكلام العرب .
فإن قيل : فقد وقف وجوزوا الوصل في ذلك .
قلنا : أتوا به على نية الوقف ، غير أنهم قصروا زمن الفصل بين النطقين ، فظن من لا خبرة له أنهم وصلوا وصلا محضا ، وليس كذلك .
[ ص: 501 ] ومثله قراءة ابن عامر : لكنا هو الله ربي ( الكهف : 38 ) ، بإثبات الألف في حال الوصل ، اتبعوا في إثباتها خط المصحف ; لأنهم أثبتوها فيه على نية الوقف ، فلهذا أثبتوها في حال الوصل ، وهم على نية الوقف .
وأما احتياجه إلى معرفة التفسير ; فلأنه إذا وقف على : ( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ) ( المائدة : 26 ) كان المعنى أنها محرمة عليهم هذه المدة ، وإذا وقف على ( فإنها محرمة عليهم ) كان المعنى محرمة عليهم أبدا ، وأن التيه أربعين سنة ، فرجع في هذا إلى التفسير ، فيكون بحسب ذلك .
وكذا يستحب الوقف على قوله : ( من بعثنا من مرقدنا ) ( يس : 52 ) ثم يبتدئ فيقول : ( هذا ما وعد الرحمن ) لأنه قيل : إنه من كلام الملائكة .
وأما احتياجه إلى المعنى فكقوله : ( قال الله على ما نقول وكيل ) ( يوسف : 66 ) فيقف على ( قال ) وقفة لطيفة ; لئلا يتوهم كون الاسم الكريم فاعلا : قال ، وإنما الفاعل يعقوب - عليه السلام - .
وكذا يجب الوقف على قوله : ( ولا يحزنك قولهم ) ( يونس : 65 ) ثم يبتدئ : ( إن العزة لله جميعا ) .
وقوله : ( فلا يصلون إليكما بآياتنا ) ( القصص : 35 ) قال الشيخ عز الدين : " الأحسن الوقف على ( إليكما ) ; لأن إضافة الغلبة إلى الآيات أولى من إضافة عدم الوصول إليها ; لأن المراد بالآيات العصا وصفاتها ، وقد غلبوا بها السحرة ، ولم تمنع عنهم فرعون .
وكذا يستحب الوقف على قوله : ( أولم يتفكروا ) ( الأعراف : 184 ) ، والابتداء [ ص: 502 ] بقوله : ( ما بصاحبهم من جنة ) ; فإن ذلك يبين أنه رد لقول الكفار : ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ( الحجر : 6 ) ، وقال الداني : إنه وقف تام .
وكذا الوقف على قوله : ( ولذلك خلقهم ) ( هود : 119 ) ، والابتداء بما بعده ، أي : لأن يرحمهم ، فإن قال في تفسير الآية : ( ولا يزالون مختلفين ) ( هود : 119 ) : يعني اليهود والنصارى ، ( إلا من رحم ربك ) ( هود : 119 ) يعني أهل الإسلام ، ( ولذلك خلقهم ) ( هود : 119 ) ، أي : لرحمته خلقهم . ابن عباس
وكذلك الوقف على قوله : يوسف أعرض عن هذا ( يوسف : 29 ) ، والابتداء بقوله : واستغفري لذنبك فإن بذلك يتبين الفصل بين الأمرين ; لأن يوسف - عليه السلام - أمر بالإعراض وهو الصفح عن جهل من جهل قدره ، وأراد ضره ، والمرأة أمرت بالاستغفار لذنبها ; لأنها همت بما يجب الاستغفار منه ، ولذلك أمرت به ، ولم يهم بذلك يوسف - عليه السلام - ولذلك لم يؤمر بالاستغفار منه ، وإنما هم بدفعها عن نفسه لأنه صلى الله عليه وسلم لعصمته ، ولذلك أكد أيضا بعض العلماء الوقف على قوله تعالى : ولقد همت به ( يوسف : 24 ) ، والابتداء بقوله : ( وهم بها ) ، وذلك للفصل بين الخبرين ، وقد قال الداني : إنه كاف ، وقيل : تام ، وذكر بعضهم أنه على حذف مضاف ; أي : هم بدفعها ، وعلى هذا فالوقف على : ( همت به ) كالوقف على قوله تعالى : ( لنبين لكم ) ( الحج : 5 ) ، والابتداء بقوله : ( وهم بها ) كالابتداء بقوله : ونقر في الأرحام .
ومثله الوقف مراعاة للتنزيه على قوله : ( وهو الله ) ( الأنعام : 3 ) ، وقد ذكر صاحب " المكتفي " أنه تام ، وذلك ظاهر على قول أنه على التقديم والتأخير ، والمعنى : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض . ابن عباس
[ ص: 503 ] وكذلك حكى في " كشافه القديم " عن الزمخشري في قوله : أبي حاتم السجستاني مستهزئون الله يستهزئ بهم ( البقرة : 14 و 15 ) قال : ليس مستهزئون بوقف صالح ، لا أحب استئناف ( الله يستهزئ بهم ) ، ولا استئناف ، ومكر الله والله خير الماكرين ( آل عمران : 54 ) حتى أصله بما قبله ، قال : وإنما لم يستحب ذلك لأنه إنما جاز إسناد الاستهزاء والمكر إلى الله تعالى على معنى الجزاء عليهما ، وذلك على سبيل المجاز ، فإذا استأنفت وقطعت الثاني من الأول أوهم أنك تسنده إلى الله تعالى مطلقا ، والحكم في صفاته سبحانه أن تصان عن الوهم .
وكذلك قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله ( آل عمران : 7 ) قال صاحب " المكتفى " : إنه تام على قول من زعم أن الراسخين لم يعلموا تأويله ، وقول الأكثرين ويصدقه قراءة عبد الله : " ويقول الراسخون في العلم آمنا به " .
وكذلك الوقف على وقالوا اتخذ الله ولدا ( البقرة : 116 ) ، والابتداء بقوله : ( سبحانه ) ، وقد ذكر ابن نافع أنه تام في كتابه الذي تعقب فيه على صاحب " المكتفي " ، واستدرك عليه فيه مواقف كثيرة ، وذلك أن الله أخبر عنهم بقولهم : ( اتخذ الله ولدا ) ، ثم رد قولهم ونزه نفسه بقوله : ( سبحانه ) فينبغي أن يفصل بين القولين .
ومثله الوقف على قوله تعالى : الشيطان سول لهم ( محمد : 25 ) ، والابتداء بقوله : وأملي لهم قال صاحب " المكتفي " : سول لهم كاف ، سواء قرئ [ ص: 504 ] ( وأملي لهم ) على ما يسم فاعله ، أو ( وأملي لهم ) على الإخبار ; لأن الإملاء في كلتا القراءتين مسند إلى الله تعالى ; لقوله : ( فأمليت للكافرين ) ( الحج : 44 ) فيحسن قطعه ، من التسويل الذي هو مسند إلى الشيطان ، وهو كما قال ، وإنما يحسن قطعه بالوقف ليفصل بين الحرفين ، ولقد نبه بعض من وصله على حسن هذا الوقف ، فاعتذر بأن الوصل هو الأصل .
ومثله الوقف على قوله : رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ( الحديد : 27 ) ، والابتداء بقوله : ما كتبناها عليهم ، وذلك للإعلام بأن الله تعالى جعل الرهبانية في قلوبهم ، أي : خلق ، كما جعل الرأفة والرحمة في قلوبهم ، وإن كانوا قد ابتدعوها فالله تعالى خلقها ; بدليل قوله سبحانه : والله خلقكم وما تعملون ( الصافات : 96 ) هذا مذهب أهل السنة ، وقد نسب أبو علي الفارسي إلى مذهب الاعتزال بقوله في " الإيضاح " حين تكلم على هذه الآية فقال : " ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جعلنا مع وصفها بقوله : ( ابتدعوها ) ; لأن ما يجعله الله لا يبتدعونه " فكذلك ينبغي أن يفصل بالوقف بين المذهبين .
ومثله الوقف على قوله تعالى : فإن الله هو مولاه ( التحريم : 4 ) ، والابتداء بقوله : وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير أي : معينون له - صلى الله عليه وسلم - فتكون هذه الجملة مستأنفة .
وأما احتياجه إلى المعرفة بالقراءات فلأنه إذا قرأ : ويقولون حجرا محجورا ( الفرقان : 22 ) بفتح الحاء ، كان هذا التمام عنده ، وإن ضم الحاء وهي قراءة الحسن ، فالوقف عند ( حجرا ) لأن العرب كان إذا نزل بالواحد منهم شدة قال : " حجرا " فقيل [ ص: 505 ] لهم : " محجورا " ; أي : لا تعاذون كما كنتم تعاذون في الدنيا ، حجر الله ذلك عليهم يوم القيامة .
وإذا قرأ : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ) ( المائدة : 45 ) إلى قوله : ( قصاص ) فهو التام إذا نصب ( والعين بالعين ) ، ومن رفع فالوقف عند : ( أن النفس بالنفس ) ، وتكون ( والعين بالعين ) ابتداء حكم في المسلمين ، وما قبله في التوراة .
: الوقف عند رءوس الآي
واعلم أن أكثر القراء يبتغون في الوقف المعنى وإن لم يكن رأس آية ، ونازعهم فيه بعض المتأخرين في ذلك ، قال : هذا خلاف السنة ; ) ( الفاتحة : 3 ) ، وهكذا روت فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقف عند كل آية ، فيقول : ( الحمد لله رب العالمين ) ( الفاتحة : 2 ) ، ويقف ثم يقول : ( الرحمن الرحيم : أم سلمة ، ومعنى هذا الوقف على رءوس الآي ، وأكثر أواخر الآي في القرآن تام أو كاف ، وأكثر ذلك في السور القصار الآي ، نحو الواقعة ، قال : وهذا هو الأفضل ; أعني الوقف على رءوس الآي ، وإن تعلقت بما بعدها ، وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض [ ص: 506 ] والمقاصد ، والوقف عند رءوس انتهائها ، واتباع السنة أولى . وممن ذكر ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقطع قراءته آية آية في كتاب " شعب الإيمان " وغيره ، ورجح الوقف على رءوس الآي ، وإن تعلقت بما بعدها . الحافظ أبو بكر البيهقي
قلت : وحكى النحاس عن أنه يستحب الوقوف على قوله : ( هدى للمتقين ) ( البقرة : 2 ) ; لأنه رأس آية ، وإن كان متعلقا بما بعده . الأخفش علي بن سليمان