[ ص: 273 ] النوع التاسع
معرفة المكي والمدني
وما نزل بمكة والمدينة وترتيب ذلك
ومن فوائده معرفة الناسخ والمنسوخ ، والمكي أكثر من المدني .
اعلم أن للناس في ذلك ثلاثة اصطلاحات :
أحدها : أن المكي ما نزل بمكة ، والمدني ما نزل بالمدينة .
[ ص: 274 ] والثاني - وهو المشهور - : أن المكي ما نزل قبل الهجرة وإن كان بالمدينة ، والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة .
والثالث : أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة ، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة ، وعليه يحمل قول الآتي ; لأن الغالب على أهل مكة الكفر فخوطبوا بـ ( ابن مسعود ياأيها الناس ) ، وإن كان غيرهم داخلا فيها ، وكان الغالب على أهل المدينة الإيمان ; فخوطبوا بـ ( ياأيها الذين آمنوا ) ، وإن كان غيرهم داخلا فيهم .
وذكر الماوردي أن " البقرة " مدنية في قول الجميع إلا آية ، وهي : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) ( الآية : 281 ) ، فإنها نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى . انتهى .
ونزولها هناك لا يخرجها عن المدني لاصطلاح الثاني أن ما نزل بعد الهجرة مدني ; سواء كان بالمدينة أو بغيرها .
وقال الماوردي في سورة " النساء " : " هي مدنية ، إلا آية واحدة نزلت في مكة في حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منه مفاتيح عثمان بن طلحة الكعبة ، ويسلمها إلى العباس ، فنزلت : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ( النساء : 58 ) ، والكلام فيه كما تقدم .
[ ص: 275 ] ومن جملة علاماته : أن كل سورة فيها : ( ياأيها الناس ) ، وليس فيها : ( ياأيها الذين آمنوا ) ، فهي مكية ، وفي " الحج " اختلاف ، وكل سورة فيها ( كلا ) فهي مكية ، وكل سورة فيها حروف المعجم فهي مكية إلا " البقرة " و " آل عمران " ، وفي " الرعد " خلاف ، وكل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى " البقرة " ، وكل سورة فيها ذكر المنافقين فمدنية سوى " العنكبوت " .
وقال هشام عن أبيه : كل سورة ذكرت فيها الحدود والفرائض فهي مدنية ، وكل ما كان فيه ذكر القرون الماضية فهي مكية .
وذكر بإسناده إلى أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني ، قال : " ما نزل يحيى بن سلام بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فهو من المكي ، وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني ، وما كان من القرآن ( ياأيها الذين آمنوا ) فهو مدني ، وما كان ( ياأيها الناس ) فهو مكي .
[ ص: 276 ] وذكر أيضا بإسناده إلى قال : " ما كان من حد أو فريضة فإنه أنزل عروة بن الزبير بالمدينة ، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه أنزل بمكة " .
وقال الجعبري : لمعرفة المكي والمدني طريقان : سماعي وقياسي ; فالسماعي ما وصل إلينا نزوله بأحدهما ، والقياسي قال علقمة عن عبد الله : " كل سورة فيها ( ياأيها الناس ) فقط أو ( كلا ) أو أولها حروف تهج سوى الزهراوين و " الرعد " في وجه ، أو فيها قصة آدم وإبليس سوى الطولى فهي مكية ، وكل سورة فيها قصص " الأنبياء " والأمم الخالية مكية ، وكل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية " . انتهى .
وذكر في " مصنفه " في كتاب " فضائل القرآن " : حدثنا ابن أبي شيبة عن [ ص: 277 ] وكيع ، عن " إبراهيم " عن الأعمش ، علقمة قال : كل شيء نزل فيه ( ياأيها الناس ) فهو بمكة ، وكل شيء نزل فيه ( ياأيها الذين آمنوا ) ، فهو بالمدينة " وهذا مرسل قد أسند عن ورواه عبد الله بن مسعود ، الحاكم في " مستدركه " في آخر كتاب الهجرة ، عن قال : حدثنا يحيى بن معين عن أبيه ، عن وكيع ، وعن الأعمش ، إبراهيم ، عن علقمة ، عن به . عبد الله بن مسعود
ورواه البيهقي في أواخر دلائل النبوة ، وكذا رواه البزار في مسنده ، ثم قال : وهذا يرويه غير قيس عن علقمة مرسلا ، ولا نعلم أحدا أسنده إلا قيس . انتهى .
ورواه ابن مردويه في " تفسيره " في سورة " الحج " عن علقمة عن أبيه ، وذكر في آخر الكتاب عن نحوه ، وقد نص على هذا القول جماعة من الأئمة ; منهم عروة بن الزبير وغيره ، وبه قال كثير من المفسرين ، ونقله عن أحمد بن حنبل . ابن عباس
وهذا القول إن أخذ على إطلاقه ففيه نظر ، فإن سورة " البقرة " مدنية ، وفيها : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم ) ( البقرة : 21 ) ، [ ص: 278 ] وفيها : ( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) ( الآية : 168 ) ، وسورة " النساء " مدنية ، وفيها : ( ياأيها الناس اتقوا ربكم ) ( الآية : 1 ) ، وفيها : ( إن يشأ يذهبكم أيها الناس ) ( الآية : 133 ) ، وسورة " الحج " مكية ، وفيها : ( ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) ( الآية : 77 ) ، فإن أراد المفسرون أن الغالب ذلك فهو صحيح ، ولذا قال : " هذا إنما هو في الأكثر وليس بعام ، وفي كثير من السور المكية ( مكي ياأيها الذين آمنوا ) " . انتهى .
والأقرب تنزيل قول من قال : مكي ومدني ، على أنه خطاب المقصود به - أو جل المقصود به - أهل مكة ( ياأيها الذين آمنوا ) كذلك بالنسبة إلى أهل المدينة .
وفي تفسير الرازي : " عن علقمة والحسن : أن ما في القرآن ( ياأيها الناس ) مكي ، وما كان ( ياأيها الذين آمنوا ) فبالمدينة - وأن القاضي قال - إن كان الرجوع في هذا إلى النقل فمسلم ، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف ; إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم واسمهم وجنسهم ، ويؤمر غير المؤمنين بالعبادة ، كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها والازدياد منها . انتهى .