قاعدة في : الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل
الاسم يدل على الثبوت والاستمرار ، والفعل يدل على التجدد والحدوث ، ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر :
فمن ذلك قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه [ الكهف : 18 ] وقيل : ( يبسط ) لم يؤد الغرض ; لأنه يؤذن بمزاولة الكلب البسط ، وأنه يتجدد له شيء بعد شيء ، فباسط أشعر بثبوت الصفة .
وقوله : هل من خالق غير الله يرزقكم [ فاطر : 3 ] .
لو قيل : ( رازقكم ) لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئا بعد شيء ، ولهذا جاءت الحال في صورة المضارع ، مع أن العامل الذي يفيده ماض ، نحو : وجاءوا أباهم عشاء يبكون [ يوسف : 16 ] إذ المراد أن يفيد صورة ما هم عليه وقت المجيء ، وأنهم [ ص: 587 ] آخذون في البكاء يجددونه شيئا بعد شيء ، وهو المسمى حكاية الحال الماضية ، وهذا هو سر الإعراض عن اسم الفاعل والمفعول .
ولهذا أيضا عبر ب ( الذين ينفقون ) ولم يقل : ( المنفقون ) ، كما قيل : ( المؤمنون والمتقون ) ; لأن النفقة أمر فعلي ، شأنه الانقطاع والتجدد . بخلاف الإيمان ، فإن له حقيقة تقوم بالقلب ، يدوم مقتضاها ، وكذلك التقوى والإسلام والصبر والشكر والهدى والعمى والضلالة والبصر ; كلها لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر ، وآثار تتجدد وتنقطع ، فجاءت بالاستعمالين .
وقال تعالى : في سورة الأنعام : يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي [ الأنعام : 95 ] قال : الإمام فخر الدين : لما كان الاعتناء بشأن إخراج الحي من الميت أشد أتى فيه بالمضارع ، ليدل على التجدد ، كما في قوله : الله يستهزئ بهم [ البقرة : 15 ] .
تنبيهات :
الأول : المراد بالتجدد في الماضي الحصول : وفي المضارع أن من شأنه أن يتكرر ويقع مرة بعد أخرى . صرح بذلك جماعة ، منهم في قوله : الزمخشري الله يستهزئ بهم [ البقرة : 15 ] .
قال الشيخ بهاء الدين السبكي : وبهذا يتضح الجواب عما يورد من نحو : ( علم الله كذا ) فإن علم الله لا يتجدد ، وكذا سائر الصفات الدائمة التي يستعمل فيها الفعل .
وجوابه : أن وقع علمه في الزمن الماضي ، ولا يلزم أنه لم يكن قبل ذلك ، فإن العلم في زمن ماض أعم من المستمر على الدوام قبل ذلك الزمن وبعده وغيره ، ولهذا قال تعالى : حكاية عن إبراهيم : معنى ( علم الله كذا ) الذي خلقني فهو يهدين [ الشعراء : 78 ] ، الآيات ، فأتى بالماضي في الخلق ; لأنه مفروغ منه ، وبالمضارع في الهداية والإطعام والإسقاء والشفاء ، لأنها متكررة متجددة تقع مرة بعد أخرى .
الثاني : مضمر الفعل فيما ذكر كمظهره ، ولهذا قالوا : إن سلام الخليل أبلغ من سلام الملائكة حيث : فقالوا سلاما قال سلام [ هود : 69 ] فإن نصب ( سلاما ) إنما يكون على إرادة الفعل ، أي : سلمنا سلاما ، وهذه العبارة مؤذنة بحدوث التسليم منهم ، إذ الفعل متأخر عن وجود الفاعل . بخلاف سلام إبراهيم ; فإنه مرتفع بالابتداء ، فاقتضى الثبوت على الإطلاق ، وهو أولى مما يعرض له الثبوت ، فكأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به .
الثالث : ما ذكرناه من دلالة الاسم على الثبوت ، والفعل على التجدد والحدوث ، هو [ ص: 588 ] المشهور عند أهل البيان : وقد أنكره أبو المطرف بن عميرة في كتاب " التمويهات " على " التبيان " لابن الزملكاني ، وقال : إنه غريب لا مستند له ، فإن الاسم إنما يدل على معناه فقط ; أما كونه يثبت المعنى للشيء فلا . ثم أورد قوله تعالى : ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ المؤمنون : 15 - 16 ] . وقوله : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون [ المؤمنون : 57 - 58 ] .
وقال ابن المنير : طريقة العربية تلوين الكلام ، ومجيء الفعلية تارة والاسمية أخرى من غير تكلف لما ذكروه ، وقد رأينا الجملة الفعلية تصدر من الأقوياء الخلص ، اعتمادا على أن المقصود حاصل بدون التأكيد ، نحو : ربنا آمنا [ آل عمران : 53 ] . ولا شيء بعد آمن الرسول [ البقرة : 285 ] وقد جاء التأكيد في كلام المنافقين ، فقالوا : إنما نحن مصلحون [ البقرة : 11 ] .