الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5189 - وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ، ذو حظ من الصلاة ، أحسن عبادة ربه ، وأطاعه في السر ، وكان غامضا في الناس ، لا يشار إليه بالأصابع ، وكان رزقه كفافا ، فصبر على ذلك " ثم نقد بيده فقال : ( عجلت منيته ، قلت بواكيه ، قل تراثه ) . رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه .

التالي السابق


5189 - ( وعن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " أغبط أوليائي " ) : أفعل تفضيل بني للمفعول ; لأن المغبوط به حاله أي : أحسنهم حالا وأفضلهم مآلا ( " عندي " ) أي : في ديني ومذهبي ( " لمؤمن " ) : اللام زائدة في خبر المبتدأ للتأكيد ، أو هي للابتداء ، أو المبتدأ محذوف أي : لهو مؤمن ( " خفيف الحاذ " ) : بتخفيف الذال المعجمة أي : خفيف الحال الذي يكون قليل المال ، وخفيف الظهر من العيال ، فيتمكن من السير في طريق الخالق بين الخلائق ، ولا يمنعه شيء من العلائق والعوائق ، ومجمل المعنى أحق أحبائي وأنصاري عندي بأن يغبط ويتمنى حاله مؤمن بهذه الصفة ( " ذو حظ من الصلاة " ) أي : ومع هذا هو صاحب لذة وراحة من المناجاة مع الله والمراقبة واستغراق في المشاهدة ، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " قرة عيني في الصلاة " وأرحنا بها يا بلال " أي : بوجودها وحصولها ، وما أقرب الراحة من قرة العين ، وما أبعدها مما قيل معناه : أذن بالصلاة لنستريح بأدائها من شغل القلب بها وقوله : ( " أحسن عبادة ربه " ) : تعميم بعد تخصيص ذكره الطيبي رحمه الله ، أو الأول إشارة إلى الكمية ، والثاني عبارة عن الكيفية ( " وأطاعه في السر " ) أي : كما أطاعه في العلانية فهو من باب الاكتفاء والتخصيص ، لما فيه من الاعتناء ، وجعله الطيبي عطف تفسير على أحسن وتفسيرنا أحسن ، ويمكن أن يكون المعنى : وأطاعه في عبادته بالإخفاء ، ولا يظهر طاعته في الملأ الأعلى على عادة الملامتية من الصوفية ، ويناسب قوله : ( " وكان غامضا " ) أي : خاملا خافيا غير مشهور ( " في الناس " ) أي : فيما بينهم ، وفيه إشارة إلى أنه لا يخرج عنهم ، فإن الخروج عنهم يوجب الشهرة بينهم ، وفيه إيماء إلى أن المراد بالناس عمومهم ، فلا يضره معرفة خصوصهم من الأولياء والصلحاء ممن يصاحبهم كما يدل عليه قوله : ( " لا يشار إليه بالأصابع " ) أي : علما وعملا ، وهو بيان وتقرير لمعنى الغموض ( " وكان رزقه كفافا " ) أي : قدر كفايته بحيث يكفه ويمنعه عن الإجناح إلى الكافة ، ( " فصبر على ذلك " ) أي : على الرزق الكفاف ، أو على الخمول والغموض ، أو على ما ذكر دلالة على أنه ملاك الأمر الصبر ، وبه يتقوى على الطاعة . قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وقال : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا وقال : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ( ثم نقد ) : بالنون والقاف والدال المهملة المفتوحة ( بيده ) أي : نقد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بيده بأن ضرب إحدى أنملتيه على الأخرى ، حتى سمع منه صوت ، وفي النهاية : هو من نقدت الشيء بأصبعي أنقده واحدا بعد واحد نقد الدراهم ، ونقد الطائر الحب إذا لقطه واحدا بعد واحد ، وهو مثل النقر ويروى بالراء اه . وهو كذلك في نسخة أي : صوت بأصبعه ، وفي رواية وهي الظاهر من جهة المعنى [ ص: 3249 ] جدا ثم نفض يده . ( فقال : " عجلت " ) : بصيغة المجهول من باب التفعيل ( " منيته " ) أي : موته ( " قلت بواكيه " ) : جمع باكية وهي المرأة التي تبكي على الميت ( " قل تراثه " ) أي : ميراثه وماله المؤخر عنه مما يورث حمل على سبيل التعداد . قال التوربشتي رحمه الله : أريد بالنقد ههنا ضرب الأنملة على الأنملة ، وضربها كالمتقلل للشيء أي : لم يلبث قليلا حتى قبضه الله تعالى يقلل مدة عمره وعدد بواكيه ومبلغ تراثه ، وقيل : الضرب على هذه الهيئة يفعله المتعجب من الشيء ، أو من رأى ما يعجبه حسنه ، وربما يفعل ذلك من يظهر قلة المبالاة بشيء أو يفعل طربا وفرحا بالشيء اه .

والمعنى من كان هذه صفته ، فهو يتعجب من حسن حاله وجمال مآله ، وقيل ، قوله : عجلت منيته أنه يسلم روحه سريعا لقلة تعلقه بالدنيا ، وغلبه شوقه إلى المولى لحديث " الموت تحفة المؤمن " . قال الأشرف رحمه الله : ويمكن أنه أراد به أنه قليل مؤن الممات ، كما كان قليل مؤن الحياة . ( رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ) : وفي الجامع : رواه أحمد ، والترمذي ، والحاكم ، والبيهقي ، عن أبي أمامة ولفظه : " أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة ، وكان رزقه كفافا فصبر عليه حتى يلقى الله ، وأحسن عبادة ربه وكان غامضا في الناس ، عجلت منيته ، وقل تراثه ، وقل بواكيه " . وروى الديلمي في مسنده عن حذيفة : " خيركم في المائتين كل خفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد " قال شيخ مشايخنا السخاوي في المقاصد الحسنة في الأحاديث المشهورة على الألسنة : علته داود ، ولذا قال الخليل : ضعفه الحفاظ فيه وخطئوه اه .

فإن صح فهو محمول على جواز الترهب أيام الفتن ، وفي معناه أحاديث كثيرة واهية :

منها : ما رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث ابن مسعود : " سيأتي على الناس زمان تحل فيه العزبة ولا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق ، ومن حجر إلى حجر كالطائر بفراخه ، وكالثعلب بأشباله ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة واعتزل الناس إلا من خير " الحديث . ومنها : ما روى الديلمي من حديث زكريا بن يحيى الصوفي ، عن ابن حذيفة ابن اليمان ، عن أبيه حذيفة مرفوعا : " خير نسائكم بعد ستين مائة العواقر ، وخير أولادكم بعد أربع وخمسين البنات " . وفي الترمذي من طريق علي بن يزيد ، عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا : إن أغبط أوليائي " إلى أن قال : " فصبر على ذلك " ثم نفض يده فقال : " عجلت منيته " الحديث . وقال عقبة : علي ضعيف ، وقد أخرجه أحمد والبيهقي في الزهد ، والحاكم في الأطعمة من مستدركه وقال : هذا إسناد للشاميين صحيح عندهم ولم يخرجاه اه .

ولم ينفرد به علي بن يزيد فقد أخرجه ابن ماجه في الزهد من سننه من غير طريقه من حديث صدقة بن عبد الله ، عن إبراهيم بن قرة ، عن أيوب بن سليمان ، عن أبي أمامة ولفظه : " أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ " وذكر نحوه ، ومن شواهده ما للخطيب وغيره من حديث ابن مسعود رفعه : " إذا أحب الله العبد اقتناه لنفسه ولم يشغله بزوجة ولا ولد " . وللديلمي من حديث عبد الله بن عبد الوهاب رحمهم الله الخوارزمي ، عن داود بن غفال ، عن أنس رفعه : " يأتي على الناس زمان لأن يربي أحدكم جرو كلب خير له من أن يربي ولدا من صلبه " .




الخدمات العلمية